
في عالم تتسارع فيه التحولات وتتداخل فيه الأزمات، لم تعد السياسة رفاهًا نظريًا أو ترفًا مؤجلاً، بل أصبحت استجابةً مستمرة لتحصين الدول من آثار الارتدادات الإقليمية والدولية. ومن هذا المنطلق، يمكن القول إن التوجه العام للنظام الموريتاني الحالي بقيادة فخامة الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني، يمثل نهجًا استباقيًا متكاملًا يهدف إلى تعزيز مناعة الدولة، وصيانة استقرارها الداخلي، ووقايتها من تداعيات الأزمات المحيطة.
لكن هذه النظرة الاستباقية، رغم وضوحها في منطلقاتها ومقاصدها، لم تُفهم حق الفهم من قبل بعض الأطراف، إما لأنها لم تُلامس بعدَ آثارها الإيجابية في بعض القطاعات بالمستوى المطلوب ، أو لأنها اصطدمت بذهنية انتظارية لا ترى في الفعل السياسي إلا ردّ فعل مباشر على الواقع القائم، لا استثمارًا في التوقي منه قبل استفحاله.
لقد أصبح من المتعذر اليوم فصل السياسات العمومية عن محيطها الدولي، إذ باتت التحديات الخارجية – من نزاعات جيوسياسية إلى تهديدات بيئية وأمنية – جزءًا لا يتجزأ من معادلة الحكم الرشيد. فالتحولات الجيوسياسية في الساحل، والأزمات الاقتصادية العالمية، وتبدلات موازين القوى، تُحتم علينا تطوير أدوات داخلية مرنة وقادرة على التفاعل. ومن هنا، يصبح الحفاظ على الاستقرار السياسي والاجتماعي ليس مجرد غاية، بل وسيلة لا بد منها لضمان المناعة الوطنية.
في هذا السياق، فإن سياسة التهدئة والانفتاح التي انتهجها فخامة الرئيس لم تكن خيارًا ظرفيًا، بل تمثل ترجمة واعية لهذه المتغيرات، ومحاولة لبناء جبهة داخلية صلبة تعزز التماسك وتقلل من قابلية البلاد للاختراق. وقد فرضت اللحظة الإقليمية والدولية هذه المقاربة، التي ترتكز على الحوار، وتوسيع قاعدة المشاركة، وتعزيز الثقة بين الدولة والمجتمع.
غير أن نجاح هذا التوجه، يتطلب دورًا فاعلًا من الجهاز التنفيذي، الذي يُعهد إليه بتنزيل هذه الرؤية وتحويلها إلى سياسات ملموسة. وهو دور يتطلب جهدًا كبيرًا، وانسجامًا مؤسسيًا، وتناغمًا بين مختلف القطاعات الحكومية، بما يضمن تسريع وتيرة العمل والابتعاد عن الخلافات الشخصية والاعتبارات الفئوية التي تعرقل الانسجام وتضعف الفعالية. فكل تراجع أو تردد في هذا السياق يمثل ثغرة يمكن أن تنفذ منها الهشاشة، ويُفقد الرؤية شموليتها وفعاليتها.
كما أن بعض القطاعات الحكومية، للأسف، لم تُواكب هذا التوجه بالوتيرة المطلوبة، ما أضعف أحيانًا من زخم الإصلاح، وأربك تفاعل المواطن مع أولويات الدولة. ومن هنا، فإن تفعيل هذا المسار الاستباقي لا يكتمل إلا بتجاوز منطق التسيير الإداري الروتيني إلى روح الفعل الاستراتيجي الذي يتوقع ويتفاعل، بدل أن يُفاجأ ويُستدرَك.
وبالنظر إلى التحديات العابرة للحدود – من تغيّر مناخي، إلى الهجرة غير النظامية، إلى تهديد الإرهاب – فإن موريتانيا مطالبة بأن تظل يقظة، وأن تعزز تعاونها الإقليمي، وتُفعّل أدواتها السيادية، وتستثمر الثقة الدولية التي أصبحت تحظى بها على نطاق واسع. فهذه الثقة ليست فقط مكسبًا ديبلوماسيًا، بل رصيد استراتيجي لا بد أن يُترجم إلى فرص استثمار، ومشاريع تنموية، ومكانة متقدمة في منظومة الشراكات الدولية.
لكن هذا الرصيد لا يصمد إلا بوجود مؤسسات قوية، وإدارة رشيدة، ومجتمع يقظ، ورأي عام نقدي يميّز بين الإنجاز والتقصير. من هنا تأتي أهمية محاربة الفساد، وتجفيف منابع الرشوة، والتصدي لاستغلال النفوذ. فكل تلك المظاهر تقوّض الثقة، وتضعف مناعة الدولة، وتفسد العلاقة بين المواطن ومؤسسات الحكم.
وفي ذات السياق، فإن النقد البنّاء يجب أن يُحتضن، لا أن يُخشى، تمامًا كما يجب التنويه بالإنجاز متى تحقق. وعلى الطيف السياسي أن يُدرك أن المعارضة ليست نقيضًا للمواطنة، كما أن الموالاة ليست ذريعة للصمت أو التبرير. فتكامل الأدوار بين مختلف القوى هو ما يصنع حيوية الحياة السياسية ويُثري القرار الوطني.
ولا يمكن إغفال دور الإعلام الوطني، الذي لا يزال، في جوانب كثيرة، دون المستوى المأمول. فالمرحلة تتطلب إعلامًا مسؤولًا، يواكب التحولات، ويرتقي بالنقاش العمومي، ويساهم في تشكيل وعي وطني يُحصّن المجتمع من الانقسام والاستقطاب.
هكذا نفهم القيادة حين تتسلّح بالهدوء، وترتكز على الفهم العميق للسياق، وتسعى لصياغة سياسات واقعية تعبر من اللحظة إلى المستقبل بثقة ومسؤولية ،لكن القيادة وحدها لا تكفي، إن لم تجد من يستوعب رؤيتها، ويترجمها إلى وعي جمعي، وسلوك وطني رشيد