
• تشرين الأول / أكتوبر ٢٠٢٥
لم أقابل مناف طلاس في حياتي إلا مرة واحدة، ولم تجمعني به أي اتصالات بعدها، لكنّني، ككثيرٍ من السوريين، أتابع ما يجري في بلدي المنكوب بكل ما تبقّى من وعيٍ ووجع.
وأمام حجم الكارثة التي تعيشها سورية اليوم، من دمارٍ، ودمٍ، وانهيارٍ في كل مقوّمات الدولة، أجد نفسي أقدّر أيّ جهدٍ يُبذل بصدقٍ في سبيل إنقاذ الوطن.
ومن بين هذه الجهود، يبرز مشروع مناف طلاس كحالةٍ سياسيةٍ مختلفةٍ، تسعى إلى إعادة تعريف الوطنية السورية بلغة العصر، لا بلغة الماضي المتهالك.
أولاً: الواقع المأساوي... وانسداد الأفق السياسي
ما تعيشه سورية اليوم ليس أزمة عابرة، بل انهيار شامل لمنظومة الدولة والمجتمع.
فالسلطة الانتقالية الحاكمة في دمشق أثبتت فشلها الذريع في كل المجالات:
لم تستطع أن تدير اقتصادًا، ولا أن تبني مؤسساتٍ، ولا أن تحافظ على تماسك الجيش أو المجتمع.
تحوّلت من سلطة مؤقتة إلى سلطة انتقامية، تبرر وجودها عبر استمرار الأزمات، وتستمدّ شرعيتها من خطاب الخوف والطائفة، لا من الإرادة الشعبية.
أخطر ما في المشهد أن النظام الطائفي الحالي بات يَحكم عبر منطق الانقسام، لا منطق الدولة.
ومع سقوط مفهوم “المؤسسة” لصالح “الولاء”، دخلنا مرحلة اللا دولة، حيث يختلط العام بالخاص، والوطن بالمزرعة، والمواطن بالرعية.
ثانياً: رفض الطائفية… والبحث عن وطن
أنا من الذين يكرهون الطرح الطائفي، من أي جهةٍ صدر، لأنه يعيد السوريين إلى زمن الغرائز، ويغتال فكرة الوطن.
الطائفية، في حقيقتها، ليست إلا ردة فعل على غياب الدولة، وحين تسقط الدولة القوية العادلة، تتقدّم الهويات البديلة: المذهب، والعشيرة، والعرق، والفصيل.
وهذا ما حدث في سورية بعد أن تحوّلت السلطة إلى مشروعٍ مذهبيٍّ مغلق، يعادي أغلبية السوريين، ويفكّك النسيج الاجتماعي بدلاً من ترميمه.
إنّ مشروع الدولة الوطنية الحديثة هو وحده الذي يستطيع أن يستوعب الجميع، وأن يردّ الاعتبار لفكرة المواطنة، لا الانتماء القَبلي أو الطائفي.
ومن هنا، فإنّ أي مبادرة وطنية اليوم، يجب أن تنطلق من استعادة مفهوم الدولة، لا إسقاطها، لأن سقوطها يعني استمرار الفوضى إلى ما لا نهاية.
ثالثاً: مشروع طلاس... من الفكرة إلى الرؤية
تابعتُ باهتمام المحاضرة التي قدّمها طلاس مؤخراً، ووجدت فيها خطوطاً فكريةً وسياسيةً يمكن أن تشكّل نواةً لمشروع وطني حقيقي.
ما طرحه لم يكن تنظيراً فارغاً، بل رؤية متكاملة لبناء دولة سورية جديدة تقوم على:
عقد اجتماعي جديد يعيد تعريف العلاقة بين الدولة والمواطن.
جيش وطني محترف، بعيد عن الولاءات الطائفية والفصائلية.
إصلاح مؤسسي شامل يعيد الثقة بالعدالة والقضاء.
اقتصاد إنتاجي تنموي يعيد بناء الطبقة الوسطى التي دمّرتها الحرب.
هوية وطنية جامعة تُنهي منطق “نحن وهم”، وتعيد الاعتبار للانتماء السوري فوق كل انتماء.
هذه ليست شعارات، بل خطوط استراتيجية يمكن، إذا حُوّلت إلى برنامجٍ سياسيٍّ عمليٍّ ومفصّل، أن تؤسس لمرحلة الانتقال الوطني الحقيقية، بعيداً عن كل الوصفات الدولية الجاهزة التي أثبتت فشلها في أماكن أخرى.
رابعاً: اهتمام متزايد إقليميًا ودوليًا
تشير المعطيات إلى أن مشروع طلاس بدأ يحظى باهتمامٍ متزايدٍ في الأوساط السياسية الإقليمية والدولية.
السبب بسيط: لأن المشروع متوازنٌ في خطابه، وواقعيٌّ في مقارباته، ووطنيٌّ في جوهره.
فالعواصم الكبرى تبحث اليوم عن طرفٍ سوريٍّ قادرٍ على توحيد الصفوف، ويمتلك رؤيةً تتجاوز عقلية الثأر والانتقام.
وتفيد تقارير شبه مؤكدة أن طلاس عقد خلال الأسابيع الماضية لقاءات مع عددٍ من القيادات الإقليمية البارزة، وقد أثنت هذه القيادات على مضمون المشروع ورؤيته، معتبرةً أنه يمثل فرصةً واقعية لإطلاق مسارٍ سياسيٍّ وطنيٍّ سوريٍّ جامع يمكن أن يحظى بدعمٍ عربي ودولي متقاطع.
وفي هذا الإطار، فإن شخصية طلاس، بما تملكه من خلفية عسكرية ومجتمعية وسطية، تتيح له أن يكون جسراً حقيقياً بين الأطراف السورية المتباعدة، لا طرفاً إضافياً في الصراع.
كما أنّ ما يُحسب له أنه لم يطرح نفسه “زعيمًا”، بل منسقًا لمشروعٍ وطني جامع، يهدف إلى توحيد السوريين على فكرة الدولة، لا على الولاء له شخصياً.
وهذه نقطة جوهرية تميّزه عن كثيرين ممن خلطوا بين المشروع والذات.
خامساً: لماذا أؤيد هذا المشروع؟
أؤيد هذا المشروع لأنني أرى فيه محاولةً علميةً ومنهجيةً لإعادة إنتاج الفكرة الوطنية السورية بعد كل ما أصابها من تهميش وتشويه.
وأؤيده لأنه لا ينطلق من نزعةٍ طائفيةٍ أو مصلحية، بل من مقاربة سياسية ناضجة تُدرك أن لا خلاص من دون مصالحة وطنية حقيقية.
كما أنني أؤيده لأنه يعيد السياسة إلى معناها الأخلاقي، بعد أن تحولت في سورية إلى مجرد إدارةٍ للفساد، ومسرحيةٍ لتدوير الوجوه.
إن مشروع طلاس يعيد للسوريين حقّهم في أن يحلموا بدولةٍ لا تشبه السجن، وبوطنٍ لا يُعاملهم كملفّ أمني، وبجيشٍ يحمي الحدود لا القصور.
سادساً: قوة الوحدة... وسورية التي تفرض نفسها
حين يجتمع السوريون حول مشروعٍ جامع، فإنهم يُجبرون الجميع على احترامهم.
إنّ القوى الإقليمية والدولية لا تحترم الفراغ، ولا تتعامل إلا مع من يملك رؤيةً موحّدةً وقدرةً على الفعل.
ولهذا، فإن وحدة السوريين حول مشروع وطني واضح كفيلة بأن تغيّر المعادلات كلها، وتعيد المبادرة إلى الداخل السوري بعد أن كانت مرهونةً بالخارج.
سورية، في نهاية المطاف، لن ينقذها إلا السوريون أنفسهم.
لن يكتب مستقبلها إلا أولئك الذين آمنوا بها وطناً، لا غنيمة، ولا ولاية، ولا إمارة.
سابعاً: الوقت ينفد… والإنقاذ واجب وطني
كل يوم نتأخر فيه عن العمل الحثيث لإنقاذ سورية، نخسر فيه جزءًا من ذاكرتنا، ومن إنساننا، ومن مستقبلنا.
الزمن لا يرحم، والانهيار الأخلاقي والاقتصادي والاجتماعي يتعمق يوماً بعد يوم.
إن ما تبقى من الدولة اليوم هشٌّ إلى حدٍّ يُخيف، وما لم تُستعاد المبادرة السياسية عبر مشروع وطني جامع، فقد نجد أنفسنا قريباً أمام تفككٍ جغرافيٍّ حقيقيٍّ، لا مجرد مجازٍ سياسي.
ثامناً: طلاس والجيش الوطني
من الناحية العملية، يمتلك طلاس القدرة على لعب دورٍ محوريٍّ في إعادة تأسيس الجيش السوري على أسسٍ احترافيةٍ مهنيةٍ حديثة.
فالجيش هو عمود الدولة، وإذا كان مختطفاً من سلطةٍ فئويةٍ أو فصائلية، فلن تقوم للدولة قائمة.
إنّ طلاس، بخبرته العسكرية وبحكم انتمائه إلى مؤسسةٍ يعرفها جيداً، قادرٌ على المساهمة في تحويل الجيش إلى مؤسسة وطنية جامعة، تحمي الدستور والحدود، لا الأشخاص والأنظمة.
تاسعاً: من بين الركام تولد البذرة
في لحظات اليأس العميق، يولد الأمل كفعلٍ مقاومة.
سورية اليوم ليست بحاجة إلى بطلٍ خارق، بل إلى فكرةٍ تؤمن بها، ومشروعٍ تتوحد حوله، ورجالٍ شجعانٍ يقولون: كفى عبثاً.
مشروع مناف طلاس ليس وعداً سهلاً، لكنه بداية الطريق الصحيح نحو وطنٍ يتصالح مع ذاته، ويستعيد دوره ومكانته.
من بين الرماد، يمكن أن تولد البذرة الأولى لنهضةٍ سوريةٍ جديدة،
ومن بين هذا الخراب، يمكن أن نسمع مجدداً نبض الوطن حين يؤمن بنفسه.