لطفا، أعرنا أباك

أربعاء, 12/03/2025 - 12:02
الهيبة الشيخ سيداتي

في مشهد مهيب ونادر باع عدد من المقاتلين الفلسطينيين الأشداء الأسبوع الماضي أنفسهم لله بعد حصار دام عدة أسابيع.

 

المقاتلون حاورهم العالم كله وعرض عليهم مغادرة مواقعهم بأنفاق داخل مدينة رفح خلف الخط الأصفر، شريطة أن يتخلوا عن سلاحهم ويسلموا أنفسهم للعدو

 

تعرضوا للتجويع طيلة أسابيع، وحوصروا من جميع الجهات، لكنهم صمموا، رغم قسوة الظروف ومرارة الخذلان، أن يحرموا العدو من تحقيق حلمه في التقاط صورة يستعيد بها صورة انسحاب مقاتلي حركة فتح من لبنان مطلع الثمانينيات من القرن الماضي.

 

كل العالم ضغط عليهم وعلى من يحاور باسمهم. لكنهم صدقوا ما عاهدوا الله عليه وصبروا وصابروا ورابطوا حتى قضى من قضى منهم نحبه وما بدلوا ولا تأولوا، بل اختاروا التضحية بأنفسهم مدركين أن وقع دمائهم الزكية في نفوس أعدائهم أقوى وقعا وأبلغ أثرا من أن يعطوا الدنية في دينهم وقضيتهم.

 

من يتصور هذا المشهد: شباب في مقتبل العمر، محاصرون، مجوعون، ومعزولون عن أي طريق إمداد، ومدركون تماما للواقع من حولهم، تعرض عليهم حياتهم مقابل التخلي عن قطع سلاح لا تغني عنهم شيئا، ورغم ذلك يرفضون عرض العدو، مختارين ما عند الله ومؤثرين مجدا مؤثلا لا يدركه إلا من أوتي مثل ما أوتوا من علو همة ومضاء عزيمة وثبات على المبادئ.

 

قرأت تعليقا للمبعوث الأمريكي للشرق الأوسط، ذلك المتعجرف الذي يوزع الإساءات حيثما توجه، يقول فيه، ردا على سؤال عن توقعاته حول الحرب في الشرق الأوسط، إنه متشائم لأن المقاتلين هنا لا يقبلون أو لا يعرفون الاستسلام.

 

أعرف أن وراء كل بطل من هؤلاء قصة. فالأربعون شابا الذين حوصروا واستشهدوا بقصف نفقهم بعد رفضهم تسليم سلاحهم ليسوا أشخاصا عاديين.

 

صحيح أنهم بشر مثلي ومثلك، لكن لا مقارنة بينهم وبين غيرهم حين نتفحص تفاصيل صبرهم وصمودهم.

 

هناك مشهدان يختزلان الكثير، أحدهما عنهم والآخر عمن كان يفاوض باسمهم.

 

الأول مشهد ذلك الشاب الذي سجل فيديو لحظات قبل استشهاده وهو يبتسم بل ويضحك، يودع فيه أهله ويحدثهم عمن استشهد وعن انتظاره الشهادة ويحثهم على الصبر والاحتساب.

 

 غريب هو مشهد ذلك الفتى. كان يتحدث وهو على بعد دقائق من الدار الآخرة، في حديثه حلاوة وصدق، وفيه طمأنة على مستقبل تلك الأرض التي يستقبل الأبطال فيها الموت بهذا القدر من البشر والسعادة.

 

المشهد الثاني مشهد ذلك الأب غازي حمد عضو الوفد الذي تولى المفاوضات مع الوسطاء من أجل السماح للأبطال بمغادرة رفح. كنت أتحسس نبضات قلب الأب عند كل لحظة يأس في المفاوضات، أعيش أحاسيسه وهو الذي يعلم يقينا أن فلذة كبده معرض للقتل أو الموت في أي لحظة، ورغم ذلك لم يهن ولم يخضع لضغوط العدو وإملاءاته، ثم جاء نعيه لابنه ليثبت رضاه بقضاء الله وصلابة عوده رغم رقة مشاعر الأبوة.

 

لو قدر لي أن أطلب من ذلك الشاب الشهيد شيئا لطبته أن يعيرنا أباه ليعلمنا أن الأبوة الحقة ليست إيثارا لمصالح خاصة عاجلة، وليرسخ لدينا معاني التوكل على الله وقيم التشبث بالكرامة؛ ليربي فينا معاني التضحية والصدق والإباء؛ ليرسخ فينا قيم الوفاء للوطن التي تسهل في سبيلها التضحية بأرواح الآباء والأبناء؛ ليعود بنا إلى عهد الصحابة كأننا نرى فصولا منه رأي العين كتلك التي تكتب الآن على أرض فلسطين.