لم يعد هنالك من لا يعشو لبريق الذهب في صحراء انيشيري، التي يتيه بها القطا.. فلم يصدّق الشباب الضائع، الذي قصمت ظهره سنوات ولد عبد العزيز العجاف إلا أن ما يتراءى بريقه هو نهاية بؤسه الأبدي.. فقد افترت له الحياة أخيرا عن ثغرها الذهبي الأشنب..!
بغض النظر عن رأي خبراء علم المعادن Mineralogy الذين لا يترددون في التشكيك في شائعة الذهب، التي خلبت قلوب العاطلين عن العمل. فيبدو أن السلطات الموريتانية التي تعاني أزمة اقتصادية، كان المتطلعون للتغيير يعلقون عليه آمالاً جساما في تثوير جياع الشعب.. أولئك الجياع الذين نهب ولد عبد العزيز ثرواتهم و داس بأظلافه الخشنة على كرامتهم، ربما أبرمت أمراً بليل لكى ترمي عصفورين بحجر واحد: فانشغل الشباب بمطاردة خيوط دخان الثراء، و استغل نظام ولد عبد العزيز “لعاب الشباب الذي يسيل جشعاً” ليَهِيل من جرابهم ما يقيم به صُلْب نظامه المتهتريء.
اشياء كثيرة تثير الريبة في موضوع التنقيب العشوائي عن الذهب، تخفي خلفها مؤامرةً، ليلُها كنهارها، ربما ستكشف قوابل الأيام عن ما وراء أكمتها.
دعونا نستجلي بعض التفاصيل، التي يكمن فيها الشيطان، لنحدد من هو الشيطان الذي نفخ في أسحار البسطاء، فاطبّاهم بريق وهمه:
– ما لا يعرفه كثيرون، وقد أكدته مصادر و قرائن، هو أن إبن الرئيس الموريتاني أحمدُّ كان قد جلب، قبل وفاته، كمية كبيرة من أجهزة الكشف عن الذهب، وقد استودعها صهره محمد ولد امصبوع، الذي احتفظ بها، إلى أن بيعت جميعها في غمرة الأيام الذهبية.. لينتهز بعد ذلك رجال أعمال أغلبهم من أبناء عمومة الرئيس فرصتهم في استجلاب أجهزة أخرى، تم بيعها بـ”صلم الآذان” (حسب التعبير العامي).
فما الغرض من اقتناء أحمدُّ لهذه الأجهزة.؟!
و لماذا هذه الدعاية التي لا تتثاءب للتنقيب العشوائي عن الذهب، و التي تكاد يكتسي طابعا رسمياً، فقناة خيرة بنت الكربيَّ التي لا تفغر فاها إلا بما يمجّد نظام الديكتاتور و يكسيه ثوب القداسة، لم تستطع إلا أن تخصه بتقارير لا تحاول من خلالها سبر أغوار حقيقته، و إنما أفهمت من خلالها و أبهمت بما يوحي بأنها فرصة للمواطنين، فهي كما قالت التقارير “تجربة تستحق العناء” و “إنجاز عظيم أن توزع الدولة تراخيص لمغازلة الأوهام”.
فما الهدف من هذه اللغة الإشهارية التي تناولت بها قناة الموريتانية موضوع التنقيب عن الذهب.؟.. ألم يكن عليها أن تتقصى في شأنه بما ينير الفهوم، فتستضيف خبراء.. و تتأكد بما يقطع دابر الريبة، مما إذا كان هنالك من عثر عليه فعلاً.؟!.. فمهمة القناة التي ينفق عليها دافعو الضرائب من جيوبهم هي حمايتهم و ليس الدفع بهم لمطاردة السراب.
و ما معنى أن يظهر شاب مقنع ليوجه نداء للشباب بالنفير إلى صحراء “النُّضَار”، التي جلب منها بعد أن باع سيارتها المتهالكة 25 مليون أوقية.؟..
متى كان الموريتاني يتحدث عن مصدر رزقه ليقتحمه المنافسون.؟..
و متى كان يصرّح بأمواله علناً ليثير الأطماع و هو الذي لم يصرح رئيسه بمنهوباته.؟!
ثم أليس مريباً أن تُزامِن الطبيعةُ سخاءً كالريح المرسلة مع الأزمة الاقتصادية و السياسية (مساعي تمديد المأمورية)، فيتنفس الأرعن الصعداء، بعد أن كادت تبلغ الحلقوم، وتقطع البلعوم.؟!
و إلى أي مدىً وصل نظام ولد عبد العزيز في انعدام مسؤوليته، فهو لم يوفر الأمن لغزاة صحراء إينشيري، و لم يلزمهم بالاحتياط لما قد قد تسببه إشعاعات مادة السيانيد في تلك المنطقة المنجمية، و إنما غايته في استدرار جيوبهم بالجمركة و بيع التراخيص تبرّر وسائله.
لقد سبق للمصريين جنوب البحر الأحمر، و السودانين أن شاموا ذات البرق الخلب.. كما كان عثور الأمريكي جيمس مارشال قبل 167 عاماً على عرق ذهب قد أسرى عدوى الطمع في سكان كاليفورنيا.. فاجتاح بنو الأصفر صحاريها باحثين عن “الوهم” الأصفر، غير أنهم أفاقوا على سراب بقيعة يحسبه الجشِع ذهباً.. تماما كما سيفيق شبابنا المسكين، فيعض أصابع الندامة، بعد أن يسبق سيفها العذل.
الخلاصة أن النظام حصد من “مؤامرته” على مواطنيه الفقراء ما يربو على 7 مليارات أوقية، و صرف الأنظار عن المظالم و المعاناة، و خلا لقنبرته الجو لتبيض في “النعمة” و تصفِر، و شَغَل ذات النحيين عن فتكة خوات ابن جبير، فلم يعد لشابٍ نَفسٌ يحتج به أو يثور.. و لكن لعل ما لم يدر في خَلَد النظام هو شعور هذا الشباب حين يعود خالي الوفاض مكسور الخاطر و قد اكتشف أن قد غُرّر به.. هل هناك من يمنعه من أن يسلك أحد جانبي هَرْشىَ: التطرف، أم الثورة.
فالكذبة الأولي تملأ جِراباً غير أن الثانية تُفرِغه.