باكرت أمس (الاثنين) عيادة كازا هاوس (casahaous) بالعاصمة السنغالية لأجل حقنة تستدعي حذرا ومهارة، من ضمن جدول علاجي هنا، وهي إحدى عيادات أقامها اللبنانيون هنا واجتذبوا لها الكفاءات والخبرات.
عند وصولي وجدت أمامي رفقة موريتانية سبق أن لقيتها مرتين على الأقل في المستشفيات هنا، وفور وصول الجراح لقيته فطلب مني الانتظار إلى الثانية ظهرا لأن غرفة العمليات مشغولة حتى وقت ذاك.
عدت إلى الشقة التي أستأجرها ثم كَرَرْتُ الواحدة والنصف فوجدت الحال بحاله، وفي قاعة الانتظار علمت من الرفقة المذكورة أن شابا لا يخفى عليه المرض تركته معهم هو من يشغل الغرفة، فقد بدأت عمليته بعيد الثامنة صباحا لاستئصال ورم في الجمجمة، وقد قدموا من انواذيبُ قبل مدة لعلاجه، ومنذ إذ وهم مقيمون هنا.
تطرق الحديث إلى تكلفة العملية في حد ذاتها فقالوا إنها مليونا إفرنك غ إ (حوالي 1.260.000 أوقية) عدا ما صرفوه - وما سيصرفونه- في العلاجات والفحوص والنفقات الأخرى.
ولمن لا يعلم أقول إن نفقات العلاج جزء من نفقاتنا هنا؛ فما ندفعه هنا في الإيجار عن ثلاثة أيام يساوي الإيجار الشهري لمكان مماثل في بلادنا، وننفق على تنقلاتنا ومعاشنا مبالغ قد تفوق ما نصرفه على العلاج بشكل مباشر، فقد يجيء أحدنا لمقابلة طبيب تكلفه قيمة 12000 لكنه ينفق عشرة أضعافها وأكثر في السفر والإقامة التي قد لا تتجاوز يوما واحدا. وزاد نفقاتنا ضعف الأوقية أمام الإفرنك الذي نخسر أكثر من الثلثين عند استبدالها به.
أثناء الانتظار فكرت في نفقات القوم والكثير من أمثالهم، ثم في نفقاتي أنا نفسي المفتوحة منذ أواخر سنة 2014 والتي بلغت رقما لم أكن أحسبني ملكته من قبل، صرفت 90% منه هنا، ومثلي أكثر الآتين هنا من بلادي.
عجبت من قصر نظر بني وطني كيف لم يوفروا لنا العلاج المناسب في بلادنا (ولو في القطاع الخاص) فيأخذوا منا هنيئا مريئا ما تأخذه منا العيادات والمستشفيات العامة والخاصة هنا، ويوفروا علينا عناء السفر والمصروفات الناشئة عنه! لكني انتبهت إلى أني أقصر نظرا منهم؛ فمن سيهتم بخدمة الشعب في بلاد صار نهب المال العام فيها يحسب بالمليارات! وأي عاقل يثق بقوم يفعلون الأفاعيل ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون! بل إن بعض القادمين هنا إنما جاء بهم السعي للتخلص من معاناة جرها أولئك لهم، كطفلة أخرجت من رقبتها قطعة بلاستيك تبين أنها أصبع قفاز وضعه الجراح أثناء العملية قصدا ثم نسي نزعه، فسبب لها ورما والتهابا كاد يودي بها!
في حدود الرابعة عصرا انتهت عملية الشاب فأخرج، وتم تنظيف غرفة العمليات وتعقيمها من جديد فاستدعيت إليها وتكرر ما سبق أن حدث لي منذ حوالي أسبوعين: حقنتان في العمود الفقري تحت المنظار دون تخدير، ودعابة ومؤانسة من الجراح والفنيّ، وفي النهاية تسلمت صورتين مقطعيتين تبينان ما جرى، وتقريرا مفصلا، ووصْلاً بالمبلغ الذي دفعته، وودعني الجراح بلطف وعناية وشيعني بالنصائح والطمأنة.
عند باب العيادة لا حرج في استيقاف سيارة أجرة ولا النزول منها، مع أن عرض شارع عادي هو ما يفصلها عن مفوضية الشرطة المركزية ووقوعها قرب إحدى سرايا الدرك السنغالي. ولا غرو، فلا حرج في المرور أمام القصر الرئاسي هنا ولا خلفه.
لو كنت في بلادي لقطعت مسافة قبل أن أستطيع الركوب وأنا الذي أعياه الوقوف في المصعد!
لكم الله يا قوما أنا أمنهم وأحن إليهم مهما عانيت واغتربت.