خدمة لقرائها الكرام، تترجم "صحيفة نواكشوط" الجزء الأهم من تقرير خاص عن الطب التقليدي في مجتمع البيظان كتبه، يوم 30 يناير 1937، الإداري في المستعمرات الفرنسية، السيد بول دبْـيَــه الذي عمل لفترة طويلة في مدينتي المذرذره وبتلميت.
جاءت الفقرة الأولى من البحث تحت عنوان "تجمع مهنيي الطب"، ذكر فيها الإداري الفرنسي أن "الطــّـــبَّــه" البيظان (وهي جمع "اطــْــبيبْ" بالحسانية) يدرسون الطب في الكتب العربية، ويعتمدون على الملاحظة الشخصية، ويتوارثون الكتب والمعارف الطبية من والد لولد. غير أن ابن الطبيب في البيظان ليس طبيبا بالضرورة. ويعتبر أوفى، المنحدر من قبيلة إجاتفاغه، أشهر طبيب في بلاد الترارزه. كل عقبه تقريبا درسوا الطب. نذكر منهم: محمد ولد أوفى مؤلف كتاب "العمدة"، أوفى ولد محمد ولد أوفى (أشهر أبناء أوفى قاطبة)، المختار بابه، محمد محمود، محمذن فال، عبد الله، حبيب الله...
ومن أطباء بلاد الترارزه، هناك أيضا، في قبيلة إدَوَعـْـلي، محمد فال ولد بابه المتوفى 1926 والذي درس الطب على أوفى وابنه عبد الله. وفي قبيلة إدوعلي تكانت، هناك أسرة أهل مقاري. أما في بلاد البراكنه فلا يوجد أي طبيب بحجم أهل أوفى بالترارزه أو أهل مقاري في تكانت. مع أن تلميذا قديما لأوفى، هو أحمد محمود ولد الشيخ عبد الرحمن الملقب بابه من قبيلة إجيجبه، يتمتع بسمعة لا بأس بها.
خارجا عن هؤلاء الأطباء، يوجد في كل قبيلة تقريبا من يداوون ممن يعرفون نتفا من علوم الطبائع. نذكر في بلاد الترارزه من أطباء الفئة الثانية محمد ولد حمنّه من إدوكدشللّ، وأهل بدوّا وأهل بدر الدين من قبيلة إدابلحسن.
الأطباء التقليديون لدى البيظان ليسوا طبقة اجتماعية دنيا أو مغلقة، فالمجتمع يقدرهم نفس تقديره للمتعلمين والعلماء.
يتم الاتصال بأطباء البييظان في أماكن سكنهم، ويمكنهم أن يتنقلوا لعلاج الحالات الخطيرة. وكثيرا ما يأتي المرضى للسكن قرب حي الطبيب مكونين بذلك أحياءً بحد ذاتها.
لا يحدد أطباء البيظان أي سعر للتشخيص والعلاج، وإنما يُـترك ذلك في الغالب لتقدير الزبون. وعندما يموت المريض لا يطلب الطبيب أي تعويض عن معالجته له. ويوجد ارتباط وثيق بين خدمات الطبيب الذي ينقذ حياة المريض و"ثمن الدم": الدية. ولربما كانت أسعار التشخيص غالية في بعض الأحيان: بالنسبة للأمراض الخطيرة فإن سعرها يصل ما بين 500 إلى 2000 فرنك، وبالنسبة للأمراض العادية فسعرها يبلغ من 100 إلى 500 فرنك، أما الحجامة فيبلغ سعرها 5 فرنكات. ولا يمكن للطبيب أن يرفض معالجة المرضى المحتاجين ذوي الفاقة، وذلك من منطلق أخلاقي بحت. وعلى الطبيب أن لا يكون صارما تجاه الفقراء والأعيان.
وتحت عنوان "مصادر الطب لدى البيظان"، يقول الإداري دبْـيَـه، إن الأطباء التقليديين يعرفون أن أصل معارفهم الطبية يعود إلى الإغريق، ويُـعتبر جالينوس معلمهم الأكبر، كما أنهم يعرفون أفلاطون. من جهة أخرى يعرف أطباء البيظان ابن سينا والملالي ونبراس والبخاري. ويملك الأطباء البيظان عدة مؤلفات يتوارثونها أبا عن جد. فكتاب "إبن سينا" الموجود عندهم في ثلاث مجلدات، مطبوعة في القاهرة، يقدم خريطة لكل الأعضاء ويعالج الأمراض والأعراض المتعلقة بها. كما يوجد لديهم "كتاب الجراحات" و"تدبير الأطفال" وكتب أخرى. هناك أيضا "نظم ابن سينا" في الطب العام، ولا يوجد منه في موريتانيا إلا ثلاث أو أربع نسخ إحداها عند عبد الله ولد محمد فال ولد بابه من قبيلة إدوعلي الترارزه. كما يوجد لدى البيظان كتاب لمؤلف مجهول يتناول "النفاس".
أما كتب الطب التي ألفها البيظان أنفسهم فمنها كتاب "العمدة" لمحمد ولد أوفى المتوفى حوالي 1895، وهو عبارة عن أبيات شعرية مخطوطة تزيد على الـ 2000 بيت. ويتكلم هذا الكتاب، المعروف جدا، عن التشخيص والعلاج. وهو بسيط في أسلوبه، يمكن لكل متعلم أن يفهمه. ويتناول على الخصوص الأمراض المنتشرة في بلاد الترارزه. هناك أيضا كتاب نثري في الطب العام للشيخ سعد بوه، وكتاب لمحمد فال ولد متال المتوفى 1926، وكتاب حول الطب العام لعبد الله ولد محمد فال ولد بابه.
وتحت عنوان "مبادئ الطب التقليدي لدى البيظان"، يقول الإداري دبْـيَـه ان البيظان يعتبرون أن أصل الأشياء قائم على أربع طبائع هي: النار، الهواء، الماء، التراب. ومن هذه الطبائع تتولد الحرارة، البرودة، الرطوبة، اليبوسة. وانطلاقا من أصول هذه الطبائع فإن الحرارة توازي البرودة في تعارض معها، واليبوسة توازي الرطوبة في تعارض معها. وتوجد هذه الطبائع الأربع في المعادن وفي الأعشاب وفي الأحياء (من البشر والحيوانات والحشرات وغيرها). ومن تلاقي أو تماس الطبائع غير المتعارضة تولد الأمزجة. ويعطي امتزاج الحرارة واليبوسة ما يسمى الصفراء، ويعطي امتزاج البرودة والرطوبة ما يسمى البلغم، أما الحرارة والرطوبة فتعطي الدم، ويعطي امتزاج البرودة واليبوسة ما يسمى السوداء. وتتبع الطبائع لدى البيظان تبعية مطلقة للفصول الأربعة: فالصيف يقابل الصفراء، وتودجي تقابل السوداء، والبلغم يقابل الشتاء، والدم يقابل تفسكي. وهكذا تؤثر فصول السنة على اختيار الطبيب لنوعية العلاج المقابل له في الطبائع الأربع. ويكون الشخص في حالة صحية جيدة عندما تكون الطبائع الأربع متوازنة في الجسم لا يزيد حجم أية طبيعة عن الأخرى، وذلك هو مصدر القول الشائع: "متــْـكاديينْ فيهْ الطبايع". غير أن هذه الطبائع توجد في صراع دائم بسبب أصولها المختلفة، وأقوى معاركها في الجسم تكون بين الصفراء والبلغم وبين الدم والسوداء. وبالتالي فالمبدأ هو أن يصاب الشخص بالمرض عندما تتغلب طبيعة ما على طبيعة أخرى في حربهما المستمرة.
ومن أمراض الصفراء (وهي ليست بالخطيرة على العموم) هناك توجاط أو حمّـتْ توجاط، وهناك اصّْـفار، ويمكن اكتشافه عبر تغير لون العينين إلى الصفرة، هناك أيضا الملوخه أو المالوخيّه أو الماخوليَـه أو الماليخوليَه (وهي كلمة إغريقية في الأصل) من أعراضها اضطرابات في القلب وآلام في الرأس، وتؤدي أحيانا إلى فقد الوعي (بما يشبه الجنون) حيث يصبح المريض كثير الثرثرة، يمكنه أن يضرب شخصا أو يؤذيه، ويجري تارة في كل اتجاه على غير هدى. هناك أيضا إكندي (كلمة أصولها بربرية: اكلام آزناكه): صاحب هذا المرض لا يطيق الروائح الكريهة والأطعمة الحمضية، ويشعر صاحبها بمرارة في الفم. وسبب إكندي، حسب أوفى، هو زيادة مادة المرة التي يفرزها الكبد. ويؤثر هذا المرض على القلب والدماغ والأعين بحيث يكون بإمكانه أن يؤدي إلى العمى. وبما أن الصفراء تقابل النار فإن أمراضها تعالج بكل ما له طبيعة باردة كلحم الماعز والذرة والإكثار من شرب لبن الإبل والماعز. كما ينبغي خلط السكر والعلك وطحنهما معا واستخدامهما في نشاء الذرة. ويمكن علاج الصفراء بإثارة القيء عبر شرب الماء الساخن، وتعالج أيضا بتناول اللحم المصفر أي المشوي بدرجة قليلة.
أما الأمراض التي تسببها طبيعة الدم، فمنها التاج (حب الشباب) لدى الأطفال والشبان، وارْمَدْ وهو مرض يصيب العينين، وانفط وهي بثور متقيحة، واشكيكه (الشقيقة أو الصداع النصفي) وحمى النهار التي تختفي في المساء، واجّنكور (كلمة ولفية، وهو يدعى أيضا حب لكور) وخلفت، وبوحيمرون، والجّدري.
ويمكن معالجة أمراض طبيعة الدم بأغذية حارة أو حامضة وباللبن الخاثر المحلى، وإذا لم يتعاف المريض يعمد الأطباء إلى إثارة نزيف دم من أماكن محددة من الجسم.
بالنسبة لـ"ارمد" فيعالج بـ"الحمّيرَه" المطحونة (وهي حجر أحمر). يجعل طحين الحمّيره في محيط العينين. كما يوضع عليهما طحين "أكاز"، وهو تربة مختلطة ببول الإبل.
بالنسبة لأمراض طبيعة البلغم فمنها آلام البطن والحنجرة، ومنها السعال والسعله والكحه: أي أمراض السل الرئوي، ومنها تززميت، والنازله وحمت الليل (أم اتبيخه) وصيط...
وتعالج أمراض البلغم بشحم الإبل ولحم الضأن والغزلان ودهن السمك والتمر.
وبالنسبة لأمراض الطبيعة السوداء فهي على العموم أمراض جلدية كالجذام والكوب واحراش اجّلد والبرص والجرب والملوخه والكـَـلـَـبْ وتشاكه وأمراض الطيحان (الطحال). وهي تعالج عموما بلبن النعاج والبقر وشحوم الإبل. بالنسبة للجذام يعالج بالماء المصفى من الحناء لمدة أربعين يوما. ويعالج المجذوم أيضا بتناول الجبنة الباردة والسير على التراب الساخن حافي القدمين.
ولا يوجد أي علاج للشلل عند البيظان ولا يعرفون له سببا واضحا. كما أنه لا دواء مجدٍ لديهم لأمراض الأسنان إلا باقتلاعها.
وكخلاصة، فقد قام أحد الأطباء بتعداد 5005 أمراض متعلقة بالطبائع، أما باقي الأمراض فهي أوبئة لا علاج لها لدى البيظان وإنما هي بلاء من الله لمن يكثرون الذنوب.
مع أن الأطباء مؤمنون أيضا بما يسمونه "خواص الأشياء"، أي أن بعض الأشياء تجير وتشفي من بعض الأمراض كخاتم من النحاس الأحمر ينصح به لأمراض آلام العظام (الريماتيزم) وريشة جناح النسر التي تسهل مخاض المرأة، أما قلة لبن الأم فيعالج بحلب ثدييها على خلية نمل كي يكثر لبنها. وهم لا يعرفون تفسيرا لذلك وإنما جربوه.
أما الأمراض المتعلقة بـ"السَّل" و"العين"، وكذلك الأمراض التي يسببها مس الجن كالجنون، فلا تعني الأطباء التقليديين، بل تعني الحجّابه الذين يضعون للمريض حرزا.
وعلى العموم فالمريض الذي يراد له أن يشفى يجب أن يتعالج بمناخ وماء وأعشاب البلدة التي ولد فيها. وكثيرا ما ينصح أطباء البيظان المريض الذي لم يتماثل للشفاء بأن يذهب إلى حيث ولد ليتنفس هواءه. وهم مثلا يقولون بأنه ثمة أعراض مرضية يسببها "تيمشي": وهو أن يتعود الشخص على شرب اللبن وينقطع عنه فجأة فتظهر عليه علامات الكثير من الأمراض التي لا تشفى إلا بالعودة لشرب اللبن.
خاص/صحيفة نواكشوط