لاشك أن للسياق قدرته الفائقة في تجاوز وخرق الحدود التي نرسمها إطارا لأحداث معينة، خاصة تلك السياقات التي تكتنف تنافسا وصراعا بين أطراف يراد استدعائها في لحظة تاريخية لتشهد على مراحل تشكلها كطرف من تلك الأطراف.
إن محاولة التجرد هذه من سطوة السياق تبدو صعبة التحقق، خاصة إذا كان هذا السياق سياسيا، فالمعطى السياسي سواء كان فكرة، أو نظرية، أو شخصية، أو حركة، أو حزب… يصعب فصله عن تلك التجاذبات التي تَشكّل في خضمها، وتزداد هذه الصعوبة بشكل أكبر لتأخذ مسارا آخر حين يكن الشاهد عنصرا فاعلا في هذا المعطى السياسي.
إن الحضور الجبري الذي يمثله هذا السياق بشهادة العنصر الفاعل في المعطى السياسي يشوه التاريخ ويقلبه لصالح المعطى أحيانا، ولعل الأخطر من ذلك احتكار المواقف المضيئة وتصدّر واجهتها وفي هذا إقصاء صارخ لآخرين تبنوا نفس هذه المواقف ونادوا بها.
لكن مع هذا تتفاوت نسبة التخلص من هيمنة السياق، وقلة أولئك الذين استطاعوا التحلي بنوع من مراوغة تلك الهيمنة التي ظلت حاضرة رغم قلتها.
الأستاذ جميل منصور كان من هؤلاء الذين حاولوا في شهادتهم مراوغة هيمنة السياق السياسي، وقد نجح في معظم حلقاته في ذلك، غير أنه كما يقول المصريون "الحلو ميكملش". لم تخل هذه الشهادة من بعض اللحظات التي استسلم فيها الأستاذ جميل لنزعة الصراع والتنافس.
إن المتابع لهذه الشهادة التي قدمت في أربع حلقات ولا تزال مستمرة يدرك بشكل جلي أن للرجل قدرة إخراجية فائقة تقدم الأحداث بشكل درامي مبسط يجعل المتلقي يعيش تلك اللحظات كما لو أنها شريط سينمائي متقن الحبكة والتشويق، وكان للصحفي المتألق الشيخ ولد سيدي عبد الله دور كبير في هذه العملية الإخراجية وذلك من خلال أسئلته التوجيهية والتي لعبت دور الكادرات في العمل الإخراجي، أضف إلى هذا القدرة اللغوية والخطابية والأدبية التي ظهر بها الرجل كعادته والتي راوحت بين الفصحى والعامية، وكذلك القدرة الفكرية التي جعلته يعلو أحيانا عن بعض التفاصيل ليقارب الأحداث ويضعها في إطارها العام بعيدا عن أي شخصنة أو تجريح.
غير أن هذه القدرات الاعلامية والخطابية والفكرية لم تمنع الرجل كما أشرنا سابقا من الوقوع في فخ السياق وما يكتنفه من صراع وتسويق سياسي، فالرجل في حديثه عن تلك الفترة التي فتح فيها لهم حزب قوى التقدم (التكتل حاليا) ذراعيه واحتضنهم كان مقلا جدا في حديثه على غير العادة، بل وأكد مرارا على انه "والذين آمنوا" لم يكونوا في دائرة القرار داخل الحزب علما بأن الرجل فاز بمقعد عمدة عرفات عن الحزب، وقد وجدتُ صعوبة في إدراك أن شخصا يُقدّم لمنصب كهذا ويكون في آخر المطاف من دهماء الحزب. ولا أعتقد من وجهة نظري أن أصدقاء الأمس كانوا ينتظرون مثل هذا الثناء الذي تفوح منه رائحة الصراع على رئاسة مؤسسة المعارضة.
إن شخصية السياسي جميل المنتمي إلى طرف سياسي معين كانت حاضرة في عدة لحظات من شهادته، ومن أبرز تلك اللحظات حديثه عن مقاومة التطبيع، والتي حاول فيها صاحبنا تصدر المشهد وريادته، وقد حاول الصحفي ولد سيدي عبد الله بذكائه ثني صديقنا عن الوقوع في شرك السياق والتسويق السياسي، إلا أنه أصر على تصدرهم لمشهد مقاومة التطبيع والذي كان مرفوضا من جميع الموريتانيين عدا من هم في دائرة النظام وكان دليل صاحبنا في هذا التصدّر فتوى الشيخ محمد الحسن ولد الددو!!! نعم فتوى الشيخ ولد الددو التي أشك أنه أخرجها لصالح طرف معين، كما أشك في رضاه عن التسويق بها لفصيل سياسي بعينه.
إنها سلطة السياق التي يصعب التخلص منها حتى وإن كان المتحدث بقامة جميل الفارعة في فضاء الفكر والخطابة.
لكن مع كل هذا وإنصافا للرجل يجد المتابع لهذه الحلقات أنه كان منصفا في كثير من الأحيان لكثير من الشخصيات، كما يجد كذلك متعة نادرا ما توجد في الحديث عن التاريخ السياسي، فرتابة الأحداث وواقعيتها في هذا التاريخ لا تولّد في العادة تلك المتعة، ولعل هذا ما يدفع الكثير من المؤلفين في المسلسلات والأفلام والروايات إلى كسر واقعية الأحداث التاريخية ودمج مقاطع درامية تحدث نوعا من التشويق في القصة، ولست هنا من الذين ذهبوا إلى أن جميل ألف في شهادته ليحدث هذه المتعة وفي هذا شهادة للرجل على متعة حديثه ولكني أعتقد أن الرجل يمتلك ملكة سردية وجه من خلالها الأحداث الواقعية لخدمة غرض التشويق والمتعة، وهذا يحسب له لا عليه.
إن هذه الشهادة تعتبر إضافة نوعية في توثيق التاريخ السياسي الموريتاني الحديث سنا، ولعل هذه الجهود التي يقوم بها الصحفي المتألق الشيخ ولد سيدي عبد الله من أهم ما يمكن القيام به في إطار توثيق هذا التاريخ السياسي الذي يجب على الأجيال التي لم تعشه الاطلاع عليه والاستفادة منه لإغناء التجربة السياسية في موريتانيا وتطويرها.
بقلم: محمدو ولد لفضل