في إحدى حكايات عبد الله ناصر، استوقفني ما كتبه عن تحاور السيد أحمد و زوجته أم خالد. دخل أحمد بيته و هو ينادي بأعلى صوته ! يتغنى فرحاً، ويقفز مرحاً، فاستيقظت زوجته من قيلولتها، و أقبلت تسعى إليه و تقول ما الأمر؟! قال إنه شيء عظيم، شرف كبير، لا يدانيه شرف... انظري يا أم خالد، وأخرج من تحت إبطه غلافا ضخماً و قال: هذا..!! قالت وما هذا؟ قال: إنه الشرف، الرفعة، التاريخ..!! فازدادت حيرةًٓ واستعجلته لاستجلاء الأمر... فقال لا تستعجلي فهذا الذي أحمله يحتاج إلى هدوء و توؤدة... إنه المجد و الفخار و رأس المال... وبعد إلحاح منها أخرج الغلاف، وفتح غطاءه برفق... ثم أخرج منه ورقة كرتونية مطوية فقفزت صارخة، و هي تحسب أن الورقة شيك مصرفي، أو سند عقاري، أو وثيقة تملّك، أو شيء من ذلك، و قالت في لهفة: أرنيها، أرنيها... فلما تمعّنت فيها و رأت عليها كثيراً من الألوان، استغربت و قالت ما هذا؟... قال: شهادة..!! قالت: شهادة ماذا...؟ قال: لقد أُحلت إلى التقاعد وسلموا لي هذه الشهادة، وهي شهادة أعتز بها مدى الدهر.. إنها شهادة تزكية، و شكر و تقدير و معها وسام و شارة ألبسها في المناسبات الرسمية... فصاحت ألهذا أيقظتني يا أحمق؟ و متى كانت هذه الشهادات و الأوسمة تُسمن أو تُغني من جوع..؟! إنني مستعدة أن أعطيك من الأوراق ما تنوء به كتفك... أتدري أين أفضل مكان لورقك هذا؟! إنه بطون الأغنام... الشرف الحقيقي أيها المتعوس هو المال.. لو كنت ذكياً حاذقاً و فطنا لاستغليت منصبك الذي قضيت فيه جل عمرك، فنهبت و نهشت و هبشت كما ينهش غيرك، لو فعلت ذلك لكنت رجلاً نافعاً لك ولأهلك وذويك، لكنت في نظر الكثير من الناس رجلاً فاضلاً و كاملاً من العيوب، بل فوق ذلك كنت إنساناً نادراً ومبدعاً أي لأصبحت زعيما و شاعراً و كاتبا و رساماً و ربما ملحناً، أيضاً..! بل لحُسبت وطنياً مخلصاً و بطلا و مقاوماً كهؤلاء الذين نسمع عنهم كل يوم.. لكنك كنت جباناً تدور كما تدور الشاة في رباطها، و لم تفعل كما فعل غيرك من النهابين "الوكّالين" الأشاوس، فما الذي كان سيضرك لو فعلت..؟! إنهم لن يقتلوك ولن يجدعوا أنفك، و أقصى ما يمكنهم فعله هو إقالتك أو فصلك من عملك.. حينها تكون قد أصبحت من رجال البنوك و المقاولات و أصحاب الأسهم و العقار و الشركات الكبار.. نعم لو كنت "وكّالا" و نهاباً ثرياً «يا أحمق» لكان وجهك براقاً جميلاً مشرقاً دائم الابتسامة و ليس عبوساً قمطريراً.. ثم جرّته إلى المرآة و قالت له انظر إلى وجهك المتعب أيها التقي النقي الأمين يا صاحب الأوسمة و النياشين ..!! قال في ذلة و انكسار: صحيح - يا أم خالد - إن وجهي متعب فعلا، و صوتي أبح، وإن حالتي رثة لا تسر الصديق.. ولكن ضميري - يا عزيزتي - مشرق مضيء، لا شيء يخفيه أو يطفيه... ضميري مرتــاح، نقي كقطعة الثلج و صافٍ كقطرة الندى، ألا يكفي أنني أنام قرير العين، فارغ القلب من الهم... ألا يكفي أنني لم أطعمكم حراماً، ولم أُدخل في بطونكم ناراً ؟! صكت وجهها و صاحت: كفانا هراءً «ضمير نقي، وقلب نقي» هذا كلام فارغ لا يملأ بطناً، ولا يورث نفعاً... انظر إلى بيتنا هل فيه حبوب ضمير، أو خبز ضمير، أو سرير ضمير... هل فيه أكياس ضمير أو ذهب ضمير... يا رجل الضمير مات و أعطاك عمره من سنين و تجده اليوم مع أهل القبور في قبورهم، و نحن نعيش بين الأحياء، نريد حياة سعيدة، لا حياة ضمائر و شهادات و إفادات و نياشين، فهذه خردة لا تساوي شيئاً في عالم الماديات و الثراء والاستهلاك... راح أحمد يقلب نظره في الشهادة و النيشان ثم في وجه زوجته المرهق، و هو لا يدري ما يقول و لا يدري ما يصدق، و ضاق بنفسه و بكل شيء حوله، فقرر في الأخير أن يبكي لحال وطنه...فبكى !!!