ـ1ـ
ربّما يكون شكسبير قدْ اختصرَ تعقيدَ العلاقات الانجليزية الأوربية ـ أو بعبارة أدقّ الانجليزية الفرنسية ـ في مشهدٍ مقتضبٍ ساخرٍ من مسرحتيه “هانري الخامس″. يُقدّم المشهدُ الأميرةَ كاثرين فرنسا ابنةَ الملك الفرنسي شارل السادس ـ وزوجة هانري الخامس ملك أنجلترا ـ وهي تحاول بعد زواجها من الأخير أن تتعلّم من “وصيفة شرفها” عدّة كلمات من الانجليزية. ثم تشعرُ فجأة بالصدمة وهي تسمع بعضَها : “أصوات سيئة، فاسدة، فظّة ووقحة، ولا يليق أن تستخدمها وصيفات الشرف. لا يمكن أن أنطقَ هذه الكلمات أمام سادة فرنسا”.
ـ2ـ
لنتذكّر أن مسرحية شكسبير تتخذُ خلفيتَها التاريخية الحدَثِية من حياة الملك هانري الخامس، وبشكل خاصّ من معركة أزينكور التي انتصرتْ فيها بريطانيا على فرنسا. وأزينكور كما هو معروف هي إحدى مدن الشمال الفرنسي التي شهدتْ سنة 1415 واحدةً من تلك السلسلة الطويلة من المعارك التي يُطلِـقُ عليها المؤرخون اسمَ حرب المائة عام والتي يعتبرونها البؤرة المركزية التي انطلقتْ منها الأسطورتان المؤستتان لفرنسا وانجلترا في الفترة الحديثة. لنتذكّر ثانيا أن الأميرة كاثرين تُجسّد على أكثر من صَعيد الارتباطَ والصراعَ الشديدين الذين ميزا تزامنيا العلاقات المُركبة التي ربطتْ العائلتين المالكتين. فزواجها مثلا من ملك انجلترا هانري الخامس تمَّ بعد هزيمة الفرنسيين في هذه المعركة ووفْق معاهدة “تروا” الاستسلامية”. وستنجب منْه ابناً يصبح بدوره هانري السادس ملك انجلترا وفرنسا. ورغم اضطرارِ انجلترا للانسحاب من فرنسا في نهاية حرب المائة عام فإنَّ ملوكَها سيحتفظون بتسمية ملك فرنسا خلال أربعة قرون، ولم تختف التسمية إلا سنة 1802 مع معاهدة “آميان” في أوج المدّ النابليوني.
ـ3ـ
ما الذي حصلَ خِلال هذه القرون الأربعة التي ظلَّ خلالها حاملُ التاج البريطاني يَحملُ أيضاً لقبَ ملك فرنسا؟ تُذكِّرُ دراسةٌ نشرها سنةَ 2010 معهدُ الدبلوماسية الثقافية في برلين، عن العلاقات الصعبة بين أوربا وبريطانيا، بأنَّ الأخيرة كونتْ نظرتها الذاتية باعتبارها حصلتْ، بالمقارنة مع الإمبراطوريات الأوربية المنافسة، على أكبر “مساحة” من العالم. وبأنها أصبحتْ تَنظرُ إلى نفسِها باعتبارها أكبرَ إمبراطوريةٍ في التاريخ. لنتسْتحضر هنا أنَّ تلك القرون الأربعة عرفتْ إنشاء بريطانيا لمستعمراتٍ شاسعة في أجزاء واسعة من قارات العالم القديم ومحيطاته كما عرفتْ هيمنة التاج البريطاني على أغلب بقاع العالم الجديد. فطردَتْ بريطانيا على سبيل المثال فرنسا من معظم ما سمي بفرنسا الجديدة (معاهدة باريس لسنة 1763التي أنهت حرب السنوات السبع لصالح بريطانيا وإسبانيا)، أي أغلب ما سيعرف بكندا والولايات المتحدة الخ.
ـ4ـ
ككلّ الامبراطوريات الأوربية الأخرى، فقد مثّلتْ خسارةُ بريطانيا في القرن العشرين لأغلب مستعمراتها في العالم جرحَها النرجسي النازف بعنف. وككلّ الإمبراطوريات الأوربية الأخرى فقد حاولتْ بريطانيا بعْدَ مآسيها في الحربين العالميتين أنْ ترى مؤقتاً في الفضاء الأوربي ما قدْ يسمح لها بالحدّ من خسائرها. وهو ما عبّرَ عنْه مثلا ونستون تشرتشل في خطابٍ ألقاه سنة 1946 في جامعة زوريق. تحدّثَ حرْفياً عن ضرورة تأسيس “نوعٍ من الولايات المتحدة الأوروبية”. واستخدمَ عباراتٍ شبيهة بتلك التي استخدمها الكاتبُ الفرنسي فيكتور هغو قَـرْناً قبلَ ذلك في خطابٍ غنائي مشهورٍ. بالنسبىة لمؤلف “البؤساء” فكما تجاوزتْ الدولُ القومية الصراعاتِ الجهوية داخلَها فستسمحُ الولايات المتحدة الأوربية ـ إنْ شُيدتْ ـ بتجاوز الحروب الوطنية القومية. بنبرةٍ حماسيةٍ مماثلة تحدَّثَ خطابُ جامعة زوريق أيضاً عن أوربا من منظور سياسي. ولكنَّ تشرتشل الذي سيصبحُ أوّلَ مواطنٍ شرفي للولايات المتحدة الأمريكية (سنة 1963) عارض ـ باسم المحافظين، ولحزب العمال حينها أيضا نفس الموقف ـ انضمامَ بريطانيا إلى منظمة الحديد والصلب (1951) التي ستشكلُ نواة المجموعة الاقتصادية الأوربية (معاهدة روما لسنة 1957)، أي نواة ما سيعرفُ عقوداً بعد ذلك بالاتحاد الأوربي. من الناحية السياسية ظلّتْ بريطانيا بعد الحرب الثانية تنظرُ بحذر إلى أوربا القارية. فهي تَعتبِرُ نفسَها الدولة الوحيدة في أوربا الغربية التي استطاعتْ مقاومة هتلير. وتبيِّنُ دراساتٌ عديدة أن تحالف الدول المؤسِّسة لما سيصبحُ الاتحادَ الأوربي لم يكنْ يعْني في نظر جزءٍ من النخب البريطانية النافذة إلا تحالفاً للمهزومين.
ـ5ـ
كيف تحمستْ إذاً بريطانيا في أو اخر الستينات للدخول في المجموعة الاقتصادية الأوربية؟ وكيف أصبحتْ عضواً فيها سنة 1973؟ أي كيف قبلتْ ، وفقَ تفسيرات معينة، بدخول الرأسمالية الجزيرية في صدامٍ مع الرأسمالية القارية (مثلا دراسة رشارد هيمان، بريطانيا والنموذج الاجتماعي الأوربي: الرأسمالية في مواجهة الرأسمالية، معهد دراسات الشغل، بريتن، 2008)؟ لنعد إلى ذلك في حديث قادم.
لنلاحظ قبلُ وبشكل أعمّ أنه على الصعيد التاريخي تمثلُ ظاهرة هيمنة أوربا الغربية على العالم بعد اكتشاف الأمريكيتيْن ظاهرة لا فتة وربما غير مسبوقة في التاريخ، على الأقلّ في مستوياتٍ معينة. ولكن تمدّدها غيرَ موحدةٍ وإنّما مفكّكةً في شكلِ إمبراطوريات متنافسة ومتصارعة مثَّلَ ربّما عنصرَ “قوتها” الأكثر حساسية. فقدْ تكونُ المنافسات البينية قدْ جسّدتْ جزْئياً البابَ الذي دخلتْ منه أوربا الغربية مَا يُمكنُ أن نسميه بتاريخ الجغرافيا خلال توسّع امبراطورياتها خارج أوربا. ولكنَّ تلكَ الصراعات البينية، مثلاً مع الحرْبين الكونيتين وما بعدها، قدْ جسّدتْ، ولعلّها ما تزال تجـسّدُ، النافذةَ التي يمكن أن تخرجَ عبرَها أوربا ممّا يجوز أن نُطلقَ عليه جغرافيا التاريخ.
* مدير معهد الدراسات والأبحاث العليا في بروكسيل