تمر بنا اليوم الذكرى الحادية عشر لانقلاب الثالث من أغسطس، وقد تكون هذه مناسبة هامة للتأمل ولاستخلاص الدروس والعبر، خاصة بالنسبة للمعارضة الموريتانية التي أضاعت الكثير من الفرص الثمينة خلال هذا العقد الأخير، وهو العقد الذي كانت المعارضة تعلق عليه آمالا طوالا عراضا، فإذا بها تكتشف
في نهايته بأن لا أحوالها ولا أحوال البلاد قد تحسنت، وإنما على العكس من ذلك، فإن كل شيء في هذه البلاد قد ساء حاله كثيرا.
لقد أضاعت المعارضة الموريتانية فرصا كثيرة في هذا العقد الضائع، ولذلك فإن السؤال الأهم الذي يجب طرحه في مثل هذا اليوم هو : ما الذي على المعارضة أن تفعله الآن إذا ما أرادت أن توقف من حجم خسائرها، وإذا ما أرادت من بعد ذلك أن تمسك بزمام المبادرة؟
إن الإجابة على هذا السؤال تفرض علينا أن نطرح أسئلة أخرى أكثر دقة، وسنحاول في هذا المقال أن نجيب على أحد تلك الأسئلة، إنه السؤال الذي يقول : من هو المعارض الذي يمكننا أن نعول عليه لإحداث تغيير في هذه البلاد المتعطشة إلى التغيير؟
يعيش الناس منذ فترة من الزمن في حيرة شديدة، فهم لم يعد بإمكانهم أن يميزوا بين الخبيث والطيب، ولا بين الأصيل والمزور، ولا بين الجيد والرديء، وذلك بعد أن تعددت الأصناف وتشابهت كثيرا في مظهرها وفي أشكالها، والأمر هنا لا يتعلق فقط بالسلع المستوردة بل امتد حتى شمل أصناف الناس. في الماضي لم نكن نواجه أي مشكلة عندما نحاول أن نميز بين أصناف الأشياء أو بين أصناف الناس، لقد كان بإمكاننا أن نفرق ـ وبسهولة ـ بين الشاي الجيد والشاي الرديء؛ بين القماش الفاخر والقماش الرديء؛ بين المتسول الفقير المحتاج والمتسول المزيف الذي يجعل من التسول مهنة للتكسب ولجمع الأموال الطائلة؛ بين المعارض الأصيل، والمعارض المغشوش.
يعتمد أكثر الناس على أسلوب تقليدي للتمييز بين المعارض الحقيقي والمعارض المغشوش، ويرتكز هذا الأسلوب التقليدي على الحدة في الخطاب، وعلى الحجم المستخدم من مفردات السب والشتم في ذلك الخطاب.
ولكن هل يمكننا حقا أن نصنف المعارضين وأن نحدد رتب المناضلين بالاعتماد على الحدة في الخطاب وعلى عدد كلمات السب والشتم المستخدمة في ذلك الخطاب؟
إن الإجابة على هذا السؤال تفرض علينا أن نتوقف قليلا مع أربعة أصناف من الخطابات الحادة:
1 ـ خطاب حاد يريد صاحبه من خلاله أن يلفت انتباه السلطة من أجل الحصول على تعيين أو على أي امتياز من أي نوع، ومن أجل لفت انتباه السلطة فإن أصحاب هذا الخطاب يحتاجون دائما إلى المبالغة في الحدة، وإلى استخدام آخر ما جادت به القرائح من عبارات السب والشتم. تحضرني الآن أسماء كثيرة يمكن تقديمها كأمثلة لهذا الصنف من المعارضين المغشوشين والذين كثر عددهم في العقد الأخير، ولعل القاسم المشترك بين هذا الصنف من المعارضين المغشوشين يتمثل في المبالغة في سب وشتم رأس النظام، حتى يُخَيَّل إلى السامع بأن أول شيء سيفعله أولئك هو أنهم سيتفرغون من بعد خطاباتهم الحادة للتنقيب والبحث عن مواد متفجرة، وبأنهم إذا ما وجدوا منها شيئا فإنهم سيسارعون إلى ارتداء أحزمة ناسفة، وسيفجرون أنفسهم في أول فرصة تتاح لهم للاقتراب من رأس النظام. كثير من هؤلاء شاهدناهم من بعد ذلك وهم يفجرون أنفسهم من خلال مؤتمرات صحفية أو بيانات أو مقالات يعلنون فيها عن انسحابهم من المعارضة وعن التحاقهم بركب التغيير البناء الذي يقوده الرئيس الذي كانوا يصفونه وإلى وقت قريب بأقبح الأوصاف.
2 ـ خطاب حاد يطلقه صاحبه استجابة للتعليمات السامية من مخابرات النظام الحاكم. إن هناك طائفة من أصحاب الخطاب الحاد ليسوا إلا مجرد عملاء للنظام حتى وإن تظاهروا بأنهم من أشد المعارضين تطرفا. لقد أنفق النظام الحاكم أموالا طائلة ولقد استعان بخيرة عقول مخابراته لاكتتاب عملاء من هذا النوع، ولا شك أنه قد نجح في هذا المجال، بل يمكن القول بأنه قد أبدع في هذا المجال. مهمة هذا الصنف من المعارضين المغشوشين (وهم الأكثر خطورة) تتمثل في توجيه طعنات للمعارضة في اللحظات الحاسمة والحرجة. ومن بين الأدوار التي يلعبها هذا الصنف من المعارضين المغشوشين، والذين لا يمكن التشكيك في معارضتهم إذا ما حكمنا بظواهر الأمور هو العمل على زرع الخلاف والشقاق بين مكونات المعارضة حتى لا تجتمع على موقف واحد. إن هذا الصنف من المعارضة المغشوشة هو أكثر حضورا في المعارضة الشبابية، وذلك هو ما يفسر عدم تمكن التنظيمات والحركات الشبابية من تنسيق الجهود على العكس من المعارضة التقليدية التي استطاعت في كثير من الأحيان أن تتفق على الحد الأدنى، وأن تجتمع في تكتلات كبرى: الجبهة؛ المنسقية؛ المنتدى. هذا الصنف من المعارضين المغشوشين قد بذل في الفترة الأخيرة جهودا كبيرة من أجل تفكيك حراك "ماني شاري كزوال"، وذلك من خلال بث الإشاعات، وزرع الخلافات، وتخوين بعض نشطاء هذا الحراك، وهو لا يزال إلى الآن يشتغل على تفكيك هذا الحراك العصي على التفكيك. سأخصص إن شاء الله مقالا في المستقبل لهذا الحراك وللمناعة التي اكتسبها ضد التفكيك.
3 ـ خطاب حاد يطلقه صاحبه لا لمصلحة عامة وإنما لأسباب شخصية، وكثيرا ما تكون تلك الأسباب الشخصية التي دفعته لذلك الخطاب الحاد تتعلق بفقدان وظيفة أو بخسارة امتياز أو بضياع حلم لم يحققه له النظام..تحضرني الآن أسماء عديدة لعدد غير قليل من الموظفين و من رجال الأعمال ومن الكتاب الذين التحقوا بالمعارضة بسبب فقدان وظيفة أو بسبب ضياع امتياز. هذه الطائفة من المعارضين المغشوشين يمكن الاستفادة منها لفترات محدودة، ولكن قد يكون من الخطأ أن يتم التعويل عليها في عمل نضالي طويل النفس.
4 ـ هناك طائفة من ذوي الخطاب الحاد صادقة في نضالها، ولا يمكن بأي حال من الأحوال اتهامها بالخيانة أو بالعمالة للنظام الحاكم، ولكن مشكلة هذه الطائفة من المعارضين الصادقين المخلصين تكمن في أن البعض من عناصرها يصاب بالإحباط واليأس المبكر، وذلك بسبب أنه لا يرى على الأرض الواقع أي أثر ملموس لخطابه الحاد ولمعارضته المتطرفة والصادقة. البعض من هؤلاء عندما ينسحب من المعارضة، لا يتجه إلى النظام الحاكم، بل إنه يبدأ في بث اليأس والإحباط في صفوف الناس، وذلك بدعوى أن واقع هذه البلاد عصي على التغيير، وأن أي عمل يبذل من أجل إحداث التغيير فيها لن يكون إلا مجرد عبث في عبث.
وحتى لا نظلم هذه الطائفة من المعارضين فإنه لابد من القول بأن من بينها من يتميز بقدرات وإمكانات خارقة تمكنه من الجمع بين المعارضة الحادة وطول النفس ..تحضرني الآن أسماء قليلة وقليلة جدا ..مشكلة هذه القلة القليلة هو أنها لا تستطيع أن تصنع تغييرا لوحدها، فالتغيير لا يصنعه أحاد الناس، ولذلك فإن هذه الطائفة القليلة التي تجمع بين الحدة وطول النفس ملزمة بأن تخفف ـ في بعض الأحيان ـ من حدة معارضتها حتى تستقطب أولئك المعارضين الذين لا يملكون تلك القدرات التكوينية والخلقية التي تمكن من الجمع بين التطرف في المعارضة وطول النفس.
هذا عن تصنيف المعارضين من حيث الحدة في الخطاب. أما عن تصنيفهم من حيث النعومة في الخطاب فإننا سنكون أمام ثلاث طوائف:
1 ـ طائفة من المعارضة ليس لها أي حظ من المعارضة سوى أنها تدعي بأنها معارضة. هذه الطائفة من المعارضة المغشوشة هي عبارة عن مجموعات من الموالاة، تتحدث بلسان الموالاة، وتفكر بعقلية الموالاة، ولكنها رغم ذلك كله، تمتلك من الجرأة ـ ولا أريد أن أقول من الوقاحة ـ ما يمكنها من أن تدعي بأنها معارضة. تحضرني الآن أسماء أحزاب وشخصيات كثيرة.
2 ـ طائفة من المعارضة المغشوشة جمعت بين الرذيلتين، أي أنها جمعت بين النعومة و المهادنة في الخطاب مع قصر النفس النضالي. إن هذه الطائفة من المعارضة تستحق أن تكون في الدرك الأسفل من المعارضة المغشوشة بصحبة تلك الطائفة الأخرى التي تحدثنا عنها سابقا، والتي تجمع بين الحدة في الخطاب مع العمالة لمخابرات النظام.
3 ـ طائفة من المعارضة تعرف بخطابها المعارض الناعم، ولكنها تمتلك نفسا نضاليا طويلا. إنها لا تيأس، ولا تصاب بالإحباط، ولعل ميزتها الكبرى هي أن مستوى حماسها لا ينقص، فهو إن لم يتصاعد فإنه لا ينقص أبدا. إن هذا الصنف من المعارضة هو من خيرة أصناف المعارضة، ومن أقدرها على إحداث التغيير، ولكن بشرط أن يعي بأن هناك لحظات استثنائية يجب التعامل معها بطريقة استثنائية، وتتطلب تغييرا في نوعية الخطاب مع مضاعفة الجهود المبذولة. إن من بين اللحظات الاستثنائية التي تمت إضاعتها من طرف هذا الصنف من المعارضة الذي يعول عليه كثيرا في إحداث التغيير، يمكننا أن نذكر الأربعين يوما التي أعقبت إصابة الرئيس برصاصات أطويلة. لقد كان من المفترض أن يتم تغيير أساليب النضال في تلك الفترة، وهو الشيء الذي لم يحصل، وبذلك أضاعت المعارضة إحدى فرص التغيير.
بعد الحديث عن أصناف المعارضين، فإنه لابد من الحديث عن رتب المناضلين، والذين سنرتبهم هنا من الأسفل إلى الأعلى:
1 ـ مناضل يكتفي بنقد النظام الحاكم بلسانه أو بقلمه، ولا يزيد على ذلك، وهذا هو أدنى المناضلين درجة.
2 ـ مناضل ينتقد ويحاول بالإضافة إلى ذلك أن يتقدم بحلول وأن يعطي الانطباع بأنه يمتلك مشروعا بديلا.
3 ـ في الرتبة الثالثة يأتي المناضل الذي ينزل إلى الميادين للاحتجاج وللمطالبة بالتغيير.
4 ـ في الرتبة الأعلى يأتي المناضل الذي يجمع بين النقد وتقديم المقترحات والنزول إلى الميادين. هذا هو أعظم المناضلين درجة، وتفصله عن بقية المناضلين درجات عديدة، ما بين الدرجة والدرجة، كما بين مدينة الشامي وانبيكت لحواش من فروق من حيث التطور العمراني.
ختاما
لم يعد خافيا بأن النظام القائم لم يعد يمتلك من نقاط القوة سوى نقطة قوة وحيدة تتمثل في ضعف معارضته، وأن المعارضة لم تعد تمتلك من نقاط القوة سوى نقطة قوة وحيدة تتمثل في أن النظام القائم لا يتوقف أبدا عن ارتكاب المزيد من الأخطاء الكبيرة. لم يعد خافيا على أي متابع للشأن العام بأن المعارضة تعاني من ضعف شديد، وبأن النظام القائم يعاني أيضا من ضعف شديد، وبأن كليهما يقتات على ضعف الآخر، أي أن هناك توازنا في الضعف بينهما، وأن ذلك التوازن في الضعف سيظل قائما، ولن يختل، من قبل أن يسارع أحد الطرفين إلى تصحيح أخطائه. فهل ستكون المعارضة هي من سيسارع إلى تصحيح أخطائها، أم أنها ستضيع العقد القادم كما ضيعت من قبله العقد الفارط؟
حفظ الله موريتانيا..