لم يكن يخطر على بالي أنه بعد أسبوع من الانتهاء من ترجمة لكلمة رثائية كتبها البروفسور عبد الودود ولد الشيخ لمناسبة تأبينية لعالم اللسانيات والشاعر الموريتاني الكبير عثمان دياغانا، سأفتح صفحة لأدون فيها بعضا من ذكريات الاعجاب والتقدير التي أكنها للوالد والملعم الراحل جسدا والخالد ذكرا الصحفي والسفير محمد سعيد ولد همدي. عرفت الراحل وأنا شبل صغير في أزقة مدينة أطار؛ في حي كرن الكصبة حيث منزل أهل همدي، الدار الكبيرة لوالده أسطورة المخيال الشعبي لسكان المدينة وللموريتانيين جميعا، ذائع الصيت، طيب الذكر همدي ولد محمود أو الدهاه. عرفت محمد سعيد في أعرشة “أكيل” و”ترون” حيث واحات نخيل همدي وأبناء وبنات همدي، عرفته زائرا لعامة الناس وعائدا لمريضهم ومواسيا لفقيدهم قبل أن أعرفه ضيفا ومحاضرا في المنتديات والمراكز الثقافية في المدينة وبعد ذالك في العاصمة. عرفت محمد سعيد في علاقات إجتماعية وإنسانية واسعة لم يختزلها محيط اجتماعي او قبلي، حيث كان رحمه الله أكبر وأعظم من ذالك. كان الأب والأخ والمعلم والمربي لكل من وسعته رحم المدينة حيث فاق تواضعه وأريحيته حد المتعارف عليه محليا من زهو الدبلوماسيين وكبر بعض الباحثين وخيلاء “أولاد لخيام لكبارات”. صحيح أن محمد سعيد كان ولد الدهاه لكنه كان يعتقد أنه بإمكان أي كان أن يضحك حتى لو لم يكن “بوه الدهاه” حيث فند بروح دعابته المعهودة لكوكبة من المثقفين على طاولة ملتقى 21 أغسطس/ آب أي معنى إقطاعي يمكن أن يعتري فهم المقولة المشهورة “تظحك ما بوك الدهاه”. حيث قال تواضعا أن العبارة لا تعدو كونها رد جميل صكه من عرفوا الدهاه وصنائع الدهاه لأولاد وأحفاد الدهاه. من الخصال الكثيرة التي حببتني في الراحل الخالد سعيد تواضعه الجم ودماثة أخلاقه وروح الأريحية الفريدة التي تميزه. من يعرف هذا الطود الكبير في زياراته الدائمة لمسقط رأسه أطار سيعرف ذالك الإنسان المتواضع الذي لا يركب سيارة يضع عمامة تقيه حر شمس صيف الحجرة أو زمهرير شتائها متجولا بين المعارف دون تكلف او صنعة. لكثيرا ما لقيته في منزل المرحومة جمعه بنت يوره في أغنمريت يرويان قصص الأطفال وحكايات الكبار والجميع متحلق حوله يداعب شعر صغير أو مربتا على كتف كبير.
في مجال البحث والعطاء المعرفي كانت مكتبه الثرية محجا لكل البحثين المحليين والدوليين لما تتوفر عليه من المراجع العلمية والتاريخية من جميع الاصناف والأحجام: في مكتبته تاريخ موريتانيا بكل اعراقها وفئاتها. كانت مكتبة صوره لوحة فسيفساء سيجد فيها كل باحث ضالته. في المكتبة ولاهتماماتي الشخصية وجدته يعلق صور العبيد جبن صور من كانوا حتى الأمس القريب اسيادهم. صورة الراحلة جمعه بنت يوره فوق رف كتب منها السيرة الذاتية لنلسون مانديلا وبجنبها صورة والدته السالكه بنت ابدبه وسيدة الاعمال فيفي بنت افيجي. في طرف آخر كانت صورة السياسي سيد المختار ولد يحي انجاي والمؤرخ المختار ولد حامدن تتقاسم رفا آخر مع صور امبيريكه بنت أمبارك ومولود ولد سلمان وهم إماء وعبيد سابقون للأسرة. “نعم همدي أيضا كان إقطاعيا كان يملك العبيد والاماء” هكذا ودون مواربة أو عقد صرح محمد سعيد في استضافة له على طاولة ملتقى 21 أغسطس/ آب في مايو 2013. حيث اعترف وبجرأته وصراحته المعهودة أن العبودية كانت عرفا وتقليدا منتشرا في “ارض السيبة” وما تزال تمارس في أرض الجمهورية. من هنا اعتقد ان رأس المال الاخلاقي لمحمد سعيد ورصيده الوطني الزاخر هو ما أهله لقيادة وتزعم ميثاق الحقوق السياسية، الاقتصادية والثقافية للحراطين مع تحفظي الشخصي على مساره ومآله. في آخر مرة زرته في مكتبه كان بصحبتي صديق من جامعة فلوريدا يحضر بحوثا ودراسات تتعلق بالواقع الاجتماعي والاقتصادي للبلد. سأله الصديق بمقاربة مقارناتية عن نهجي النضال الراديكالي الذي تمثله حركة إيرا و”الواقعي” الذي يمثله الميثاق بخصوص القضية الحرطانية. أجابه محمد سعيد وهو يتنقل بانسيابية بين اللغة الفرنسية والانجليزية أنه لا مجال للمقارنة بين النهجين فحركة إيرا حركة شعبية تعبر عن مرارات ومظالم عظيمة لحقت بشعب كامل بينما لا يعدو الميثاق كونه هيئة نخبوية يرأسها شخص ولد وفي فمه ملعقة من ذهب او كما قال. أثناء اعداد ورقة بحثية عن تاريخ “السينما الموريتانية” أو السينما في موريتانيا على الأصح توصلت عن طريق الفتى مزيد بوثيقة نادرة لمذكرات همام أفال أو المليك المسماة “مذكرات همام” مصدرها مكتبة محمد سعيد وقد كتب تقديما للمذكرات رحمه الله من نيويورك حيث عمل دبلوماسيا أريبا لبلده بلغة فرنسية صقيلة وأسلوب سردي جزل يوائم دقة المعلومة وطرافة الموقف مما يجعل الباحث يمسك بالخيط الناظم لشخصية الاسطورة همام؛ نشأته وتقلباته المهنية والسياسية والمزاجية. في ذكرى رحيله الأولى وعلى قلة الناعين وقصر ذاكرة أهل البلد فقدت الساحة بأفول نجم محمد سعيد وفي وقت حرج ثقافيا واجتماعيا شخصية نادرة تجمع خصالا قلما تجتمع في شخص واحد من أبسطها الأريحية الشخصية والتصالح مع الذات والانفتاح على الآخرين والتواضع الجم وغنى التجربة وسعة الباع وتنوع العلاقات وشموليتها لكل الطيف العرقي والثقافي المشكل للفسيفساء الوطني.