أن تشب الحرب بين دولتين ذواتَيْ قدرات عسكرية متقاربة، فربما يصعب التكهن حينها أيّ من الطرفين سيكون النصر حليفه. ولكن، ان تندلع الحرب بين دولة تمتلك من القدرات العسكرية ما يجعل جيشها من أقوى جيوش العالم وأقواها في منطقته، وحزبٍ مسلحٍ لا يرقى بممتلكاته العسكرية الى مخزون عدوه، أَضِفْ على ذلك وقوف المجتمع الدولي وأطراف إقليمية، وللاسف داخلية، في خندق العدو، ويخرج هذا الحزب منتصرا شامخ الرأس ذالاًّ المعتدي الغاصب، ففي البَيْن تأملات وقراءات وتحليلات لن يستوعبها هذا المرور المقتضب.
نعم أيها القارئ الكريم، اننا نتكلم هنا عن حرب تموز 2006، والتي شنها العدو الإسرائيلي علينا في لبنان بعد قيام مجاهدي المقاومة الإسلامية بأسر جنديين اسرائيليين لمبادلتهما بأسرى في سجون الاحتلال، حيث بدأت الحرب في 12 تموز 2006, وعلى مدى 33 يوماً، قبل أن تُختَتَم بنصر تاريخي للبنان والامتين العربية والإسلامية وانكسار مذل وفشل مخزي للكيان الغاصب.
ولكن، أنّى لثلةٍ بشرية متواضعة الإمكانات، أن تتمكن من الصمود وإلحاق الهزيمة النكراء بجيشٍ نظامي غني بعتاده العسكري والذي سبق له أن هزم بعض الجيوش العربية في حقبةٍ من هذا الزمن? هنا، لا بد من الإضاءة على مجموعة من الميزات التأملية المهمة:
أولا، العقيدة الإيمانية الصلبة التي تتحلى بها المقاومة في لبنان، والذي يشكل "الجهاد" أحد فروعها المهمة.
ثانيا، البيئة الشعبية الواسعة الحاضنة لمشروع المقاومة، والمتمثلة بالمنتسبين الى المقاومة، والمؤيدين لها من طائفتها وغيرها، والذين أصبحوا على مستوى من الوعي والدراية بأن كرامة وسيادة لبنان مُناطان بوجود المقاومة، ومن اللطيف أن نذكر ان عناصر وابطال المقاومة هم من أبناء الشعب اللبناني وليسوا كائنات فضائية أو من كواكب أخرى. ونظرية أن الجيش اللبناني-الذي نحترمه ونقدره وندعو لتقويته وتعزيز قدراته- هو الذي يقوم بردع العدو, لا يمكن الاعتماد عليها لعدم قدرة الجيش القيام بعبء هذه المهمة لوحده.[والتفصيل في محله]
ثالثا، إخلاص المقاومة[حزب الله] المطلق، والذي يتجسد من خلال استفحالها المميز في تحرير الارض، والمتمثل بعظمة تحرير الارض مع فارق الإمكانيات مقارنة لما في حوزة العدو. ونقطة مهمة جدا في هذا السياق، والتي تتجسد بعدم استيلائها على السلطة بعد أن أنجزت التحرير في أيار عام 2000، ولعله خلاف ما جرت عليه العادة حينما تنتصر المقاومات وتحرر الأرض.
رابعا، أحقية القضية التي تكافح لأجلها المقاومة، وهي تحرير أرضنا وأرض آبائنا وأجدادنا، اضافة الى الارض العربية والإسلامية ومقدساتها القابعة تحت احتلال العدو الغاصب والظالم والجائر وما شئتَ فَعبِّر. وعجباً نرى المجتمع الدولي، والذي يرفع شعارات الديمقراطية وغيرها من المصطلحات الكذائية، كيف لا يردع إسرائيل عن أفعالها الإجرامية. ولماذا لا تقوم، مثلا، الولايات المتحدة الأميركية بإعطاء شقيقتها وحبيبتها إسرائيل ولاية أو أكثر من ولاياتها لِتتخذها وطناً لها، وتترك منطقتنا وشأنها وتكف أذاها عنا? ولكن التجربة أثبتت، أن لا سبيل لاسترجاع الحق من هؤلاء إلا بالقوة وبلغة السلاح، وأن السبل الدبلوماسية في هذا المجال لا تسمن ولا تغني من جوع.
خامسا، وهي نقطة في غاية الأهمية، والمتعلقة بقيادة المقاومة، الغنية بقادة وهامات وشموخ يعملون في الخفاء، ومخلصة عملها لوجه الله تعالى. ولكني هنا، سأسلط الضوء على الشق المتعلق بسماحة الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله، القائد الحكيم والمتواضع والشجاع والمخلص والصادق، والذي أنا شخصياً، أُكِنُّ له من الإحترام والمحبة والمودة، بحيث لو قسناها بميزان دنيوي، لربما انكسر الميزان وأصبح عاطلاً عن العمل.
فإطلالاته المتلفزة خلال حرب تموز، والمعادلات التي أطلقها، كانت تشكل حرباً نفسيةً لها تأثيرها المعنوي السلبي في مجتمع العدو، من خلال ما بثته فيهم من رعب وخوف وما شكلته من عامل توتر وقلق، ويقابله معنويات مرتفعة وإرادة منتشية في مجتمعنا المقاوم.
فنستحضر مثلا حادثة قصف البارجة الإسرائيلية، والتي أعلن سماحته عنها تزامناً مع حدوثها عبر اتصال هاتفي الى اللبنانيين، ومعادلات "ما بعد حيفا"، و"ما بعد بعد حيفا"، ومعادلة "إن قصفتم بيروت فسنقصف تل أبيب", وهدوء سماحته في إطلالاته, ورباطة جأشه مع ضخامة المعركة وما تحمل في طياتها من ضغوط وهموم.
ولا يجب أن ننسى، بأن سماحته قدم ابنه الاكبر السيد هادي شهيداً, عام 1997, ضمن قافلة شهداء المقاومة الأبرار، ولهذا دلالة على طهارة هذا الرجل، وطينته المباركة، وعِبرة لمن قال له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، لذا سأتركك والتأمل...
إِذاً لا مكان للمبالغة إن قلنا أنه نصر إلهي، وبامتياز أيضا، ولمدينة بنت جبيل الحدودية حكايات أخرى في هذا المجال، المدينة التي أطلق فيها سماحة الأمين العام خطاب بيت العنكبوت في العام 2000 عقب انتصار أيار، حيث أعلن حينها أن إسرائيل هذه هي أوهن من بيت العنكبوت. في هذه المدينة المباركة، تكبد العدو ما تكبد من الخسائر ورُسِمَت على جبينه وسمة عار ستبقى براّقة في ملفات المقاومة المشرقة.
فهذا جنرال إسرائيلي يقول: "مقاتلو «حزب الله» يقاتلون ببسالة، يبقون في ساحات القتال ولا يفرُّون، ولا يهابون غاراتنا وقصفنا..انهم متمرسون في القتال.. ويمتعون بخبرات قتالية مخيفة في الميدان".
ومن العينات التي تظهر مآسي العدو في هذه المدينة, قيام طيار باستهداف، بغارة جوية، وحدة الاستطلاع التابعة للواء النخبة، بعد أن اعتقدها خلية لحزب الله، مما أسفر عن مصرع 14 جندياً.
كما ونجد أنه عُمِلَ من العدو على بث "وهم" يفيد بأنهم احتلوا "بنت جبيل", إلا أن الواقع كان خلاف ذلك.
ونلاحظ من خلال متابعة بعض الأحداث التي حدثت في تلك المعركة، أن جنود العدو الذين من المفترض أن يقوموا بمهام قتالية، نراهم منشغلين بنقل جرحاهم والمصابين في أرض المعركة..."إنها المدينة الملعونة" كما عبر عنها جنرال إسرائيلي.
نعم، شعروا أنهم كالفئران...لقد كانت اشجار الزيتون تطلق عليهم النار...لقد شاهدوا شيئا يشبه الجحيم...لقد كانوا يقاتلون اشباحا، هذا ما نقله كبار جنرالات الحرب الإسرائيليين مرورا بضباط وجنود فرق النخبة.
وفي سياق شهادته عن حرب تموز 2006, عبَّر جندي بأنه رأى مقاتلي حزب الله بالمنظار، وأنهم شبان في جيل العشرينات، وكان القتال معهم قاسيا في اغلب الاحيان، لانه قتال ضد قوة اشباح.
وهذه صحيفة "يديعوت احرونوت" الإسرائيلية، تنشر شهادة جندي إسرائيلي كان في عداد القوة الإسرائيلية التي شاركت في الحرب، والذي يعالج منذ سنوات جراء الصدمة التي انتابتهم في لبنان، مع اكثر من 400 جندي، وإليكم النص نقلا عن مصدر معين:
« كنا بالعشرات... داخل احد بيوت بلدة لبنانية، وعرف «حزب الله» بوجودنا وبدأوا يطلقون النار علينا من جميع الاتجاهات، لم يرحمونا، طلبنا عبر جهاز الاتصال المدفعية، وحصلنا عليها... وكان للبيت نافذة كبيرة، وكنت واقفاً على الشرفة أشاهد قذائفنا التي كانت تقترب شيئاً فشيئاً من البيت، في البداية سقطت على بعد مئة متر منا، ثم خمسين مترا... اتصلنا لنصحح اتجاه القصف... فظننا أن القصف سيبتعد، فإذا بالقذيفة التالية تسقط على بعد عشرين مترا وعندها أطلقوا النار علينا، قذيفتا(ن) دخانيتان، إحداهما جعلتني أطير باتجاه المطبخ واندلعت النيران، كل شيء احترق وتهاوى عليّ، بدأت بالصراخ من تحت الأنقاض، ثم شعرت بشيء، تبين في ما بعد أنه يد، تسحبني بقوة...اعتقدوا بأنني أحترق... فانهالوا عليّ بالضرب... ثم جروني إلى خارج المبنى وكان حلقي مسدودا بسبب دخان قذيفتنا وفقدت وعيي، لا أذكر الكثير، أو ربما أحاول أن أنسى، وحاولت كتابة شيء ما على الهواء مثل: «أمي أنا أحبك»، فقد رأيت نفسي وأنا أموت، بينما قال الضابط، وكلانا نخدم معا في قوات الاحتياط منذ 13 عاما، «ان الجميع كان يبكي واني متّ بين أيديهم».
ان صدمة الحرب ما زالت تنتابني، وتصيبني حتى اليوم نوبات بكاء وذعر وهلع، أتعاطى حبوبا منومة ومهدئة لأني أصبحت عصبي المزاج وأصرخ في وجه كل من يقترب مني، وكنت على استعداد لتقبل الاصابة كجزء من ثمن الحرب التي شاركت فيها، لكنني مقتنع بأن الإصابة النفسية ما كان يجب أن تكون بهذا العمق، شعوري اليوم ان الحكومة أهملتنا وربما هذا أصعب شيء. سمعت كثيرا عن إخفاقات الجيش الإسرائيلي في إدارة المعارك في جنوب لبنان، وسمعت عن أوامر حمقاء، يقولون لنا أن نحتل هدفاً وقد احتللناه مع جرحى وبعد ذلك ننسحب منه، وبعد أن نحتله مرة أخرى والمزيد من الجرحى، لا تفهم ما الذي يريدونه، أعرف أن حوادث إصابة جنود بنيران صديقة أمر يحدث في جميع الحروب، لكن لا يمكنك أن تفهم كيف لا تعرف مكان قواتك برغم كل التكنولوجيا اليوم، فهناك أجهزة كمبيوتر وأقمار اصطناعية وطائرات استطلاع من دون طيار... التي ما زال صوتها، وهي تحلّق فوقي، يهدر في رأسي حتى الآن، يريدون منحي وساما لكني أرفض، ولا أعتقد أني أستحقه وأنا أكره الجهاز العسكري والحكومة، ليس بسبب الإصابة الجسدية بل بسبب تل تلك النفسية... ذهبت إلى الحرب باسماً... فليعيدوني باسما.(»)
إنه عصر جديد بمعادلات مختلفة ونقلة نوعية، ولى زمن تزعُّم الإسرائيليين للقرارات ولمسار الحروب، أعلن رئيس الحكومة الإسرائيلية في حينها "ايهود اولمرت" أنه لا تفاوض مع منظمة إرهابية بزعمهم[مع أنهم يشكلون رأس الإرهاب وجوهره]، وأعلن سماحة الامين العام أن الجنديين الاسيرين لا يمكن ان يعودا الى ديارَيْهما بدون مفاوضات غير مباشرة وتبادل أسرى،
وَلَوْ اجتمع العالم...واجتمع العالم...ورأيتَ كلمة مَنْ نُفِّذَت في الأخير...والتعليق لك.
[ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الارض يرثها عبادي الصالحون].
أبو تراب كرار العاملي