ستشكل الفترة الزمنية التي تفصلنا عن منتصف العام 2019 فرصة ثمينة للمعارضة الموريتانية، وسيكون بإمكان هذه المعارضة إن هي استغلت الفرصة المتاحة أمامها أحسن استغلال أن تفرض تناوبا سلميا على السلطة في منتصف العام 2019، وأن تحدث بذلك تغييرا حقيقيا في هذه البلاد المتعطشة إلى التغيير. وعلى الرغم من أن هذه الفرصة قد تعززت وازدادت وضوحا بعد تعهد الرئيس بعدم الترشح لمأمورية ثالثة إلا أن احتمالات ضياع هذه الفرصة ستظل قائمة، ومن الوارد جدا أن تضيع المعارضة هذه الفرصة كما ضيعت من قبلها فرصا عديدة، وسيبقى الشرط الأساسي الذي سيمكن المعارضة من استغلال هذه الفرصة الثمينة هو أن تغير هذه المعارضة من أساليب نضالها وأن تعي أهمية اللحظة التي تمر بها البلاد، وأن تدرك بأنه من المعيب جدا البحث في هذه الفاصلة الزمنية الحرجة من تاريخ البلد عن المصالح الشخصية أو الحزبية الضيقة. إن بلادنا تمر اليوم بلحظة حرجة من تاريخها السياسي، وفي مثل هذه اللحظات الحرجة في تاريخ الدول فإن التنافس يجب أن يكون في تقديم التضحيات لا في البحث عن المصالح الحزبية الضيقة، وليطمئن الجميع فإن المصالح الضيقة لن تضيع، وكل حزب سيجني غدا من المصالح الخاصة بقدر ما سيقدم اليوم من تضحيات. .
إن بلادنا تمر اليوم بلحظة حاسمة من تاريخها السياسي، ولقد تأكد ذلك منذ التعهد العلني للرئيس الذي قال فيه بأنه لن يترشح لمأمورية ثالثة، ومع أن البعض لا يزال يشكك في ذلك التعهد، ولأولئك ما يبرر شكوكهم، ولكن عليهم أن يعلموا بأن عدم توقفهم عن الحديث عن المأمورية الثالثة يعتبر غباءً سياسيا، وعليهم أن يعلموا أيضا بأن تشريع المأمورية الثالثة كان صعبا من قبل ذلك التعهد، وقد أصبح من بعد هذا التعهد أكثر صعوبة، خاصة من بعد أن فرح له ـ وبشكل عفوي ـ الكثير من أنصار الرئيس، ومن بعد أن باركته سفارات دول أجنبية في خطوة ذكية تهدف إلى إجبار الرئيس (المتشبث بالسلطة) على ترك الرئاسة من بعد اكتمال مأموريته الثانية. وإذا كان ليس بمقدورنا أن ننفي بشكل كامل إمكانية عودة الرئيس إلى التفكير في مأمورية ثالثة، إلا أنه في المقابل يمكنننا أن نقول بأن احتمال العودة إلى التفكير في هذه المأمورية قد أصبح احتمالا في غاية الضعف.
إن فكرة المأمورية الثالثة علينا أن نلغيها نهائيا من تفكيرنا، إلا إذا جد جديد، ومن المستبعد جدا أن يجد جديد في هذه القضية بعد أن تعهد الرئيس علنيا بعدم الترشح لمأمورية ثالثة.
ولكن، ومن قبل طي هذا الملف نهائيا، دعونا نتوقف قليلا مع جزئية في غاية الأهمية ستكشف لنا بأن المعارضة هي بحاجة فعلا إلى تغيير أساليبها النضالية في الفترة القادمة، وأنها بحاجة ماسة لأن تعد العدة لكل المواقف المحتملة، وأن تكون لها مواقف محددة مسبقا من كل القرارات المحتملة التي يمكن أن تتخذها السلطة في المرحلة القادمة. فمع أن احتمال تعهد الرئيس بعدم الترشح لمأمورية ثالثة كان متوقعا في أي وقت، إلا أن المعارضة لم تستطع أن تبلور موقفا محددا من قبل الإعلان عن ذلك التعهد المتوقع، ولذلك فقد حصل ارتباك شديد في صفوف المعارضة بعد تعهد الرئيس بعدم الترشح لمأمورية ثالثة في خطابه الذي اختتم به ما سُمِّي مجازا بالحوار الوطني الشامل.
إن مثل هذه الأخطاء يجب أن لا تتكرر في المستقبل، وعلى المعارضة أن تدرس كل الخيارات الممكنة، وأن تتخذ من الآن مواقف مسبقة من كل القرارات التي يمكن أن تتخذها السلطة في المرحلة القادمة.
فما هو الموقف الذي على المعارضة أن تتخذه في حالة ما إذا قرر الرئيس أن ينفذ نتائج حواره، وأن يعلن عن استفتاء شعبي لإلغاء مجلس الشيوخ وتغيير النشيد والعلم؟
فهل القرار الأنسب في هذه الحالة هو الوقوف ضد ذلك الاستفتاء والعمل على عرقلته أو إفشاله أم أن القرار الأنسب سيتمثل في المشاركة في الاستفتاء وحث الموريتانيين على التصويت بلا وذلك من أجل إحراج الرئيس ووضعه أمام موقف سياسي بالغ الخطورة والتعقيد؟
ثم ما هو الموقف الذي على المعارضة أن تتخذه في حالة ما إذا قرر الرئيس أن يتوقف عن المطالبة بتغيير العلم والنشيد وإلغاء مجلس الشيوخ على أساس أن تلك المطالب كانت من أجل فتح المجال لتعديل المواد المحصنة للمأموريات، وما دام تمديد المأموريات لم يعد ممكنا فما هي الفائدة أصلا من تغيير العلم والنشيد؟
فماذا لو قرر الرئيس أن ينفذ نتائج الحوار باستثناء تلك المتعلقة منها بتغيير النشيد والعلم، فهل على المعارضة في هذه الحالة أن تشارك في الاستفتاء أم تقاطعه؟
وبالمختصر المفيد فهل على المعارضة أن تشارك في الاستفتاء القادم إذا ما تم تجنب التغييرات المثيرة للجدل (العلم؛ النشيد؛ مجلس الشيوخ) أم أن عليها أن تعلن بأنها لن تشارك مطلقا في أي استفتاء ولا في أي استحقاقات لا يسبقهما حوار شامل وجدي يشارك فيه كل الطيف المعارض؟
على المعارضة ومن الآن أن تجيب وبوضوح على هذه الأسئلة وعلى هذه الاحتمالات الواردة، وعليها أن لا تنتظر القرار الذي ستتخذه السلطة في هذا الشأن حتى تعلن هي عن موقفها. إن ردود الأفعال واتخاذ المواقف من بعد قرارات السلطة هو الذي يؤدي دائما إلى تفكك المعارضة وإلى تشرذمها، ومن المؤكد بأن المرحلة القادمة ستحتاج إلى توحيد الصف المعارض وإلى التنسيق الجيد في كل المواقف التي سيتم اتخاذها.
إن طبيعة ونوعية المواقف التي ستتخذها المعارضة في المرحلة القادمة قد لا تكون في حد ذاتها بالغة الأهمية، فمهما كان القرار الذي ستتخذه هذه المعارضة فهو سيبقى في النهاية مجرد قرار سياسي اجتهادي قد يحتمل الصواب والخطأ، وسواء تعلق الأمر بالمقاطعة أو بالمشاركة. إن أهمية القرار المتخذ مستقبلا ستكمن في مدى الإجماع عليه، فالمعارضة إن شاركت بإجماع في أي حوار أو في أي استفتاء قادم فإنها ستحقق بلا شك مكاسب كبيرة، وإن هي قاطعت وبإجماع فإنها لا محالة ستربك النظام وستؤدي إلى إفشال أي قرار قد يتخذه هذا النظام بشكل انفرادي. إن الخطر يكمن أساسا في أن يتم اتخاذ قرار بدون إجماع، أي أن تشارك المعارضة بدون إجماع أو أن تقاطع بدون إجماع، ولذلك فإن المعارض الذي سيوجه طعنة للمعارضة في المرحلة القادمة هو ذلك المعارض (شخصا كان أو حزبا) الذي سيخرج عن الإجماع، سواء كان قد خرج ليقاطع حوارا أو استحقاقات انتخابية شارك فيها جل الطيف المعارض، أو كان قد خرج عن الإجماع ليشارك في حوار أو استحقاقات قاطعها جل الطيف المعارض.
على المعارضة أن تعمق النقاش في كل هذه القضايا، وأن تدرس كل الخيارات المتاحة ثم تتخذ من بعد ذلك الموقف المناسب في التوقيت المناسب من كل هذه القضايا والخيارات المتاحة. صحيح أنه قد لا يقع إجماع كامل للطيف المعارض على الموقف المتخذ من كل قضية من هذه القضايا والخيارات، ولكن على الأقلية أن ترضخ لموقف الأكثرية، وعلى الأقلية أن تعلم بأن خروجها عن الإجماع هو أكبر طعنة يمكن أن توجهها للمعارضة في هذه اللحظة الحاسمة من التاريخ السياسي للبلد . سيبقى موقف الأقلية المعارضة خاطئا، حتى وإن كان القرار الذي اتخذته هو القرار الأصوب، وذلك لأهمية إجماع المعارضة في المرحلة القادمة.
وخلاصة القول في هذه المسألة هو أن المعارضة ستحقق مكاسب كبيرة إن هي شاركت بإجماع أو إن هي قاطعت بإجماع، وستتكبد خسائر كبيرة إن هي قاطعت بدون إجماع أو شاركت بدون إجماع.
يبقى هناك سؤال آخر قد يبدو للوهلة الأولى بأن الجواب عليه قد حُسم، ولكن ذلك غير صحيح.
يقول السؤال ما هو الهدف المراد تحقيقه من احتجاجات المعارضة التي تنظمها من حين لآخر، وهل هناك هدف محدد وواضح تسعى المعارضة لتحقيقه من خلال تلك الاحتجاجات؟
يتأكد طرح هذا السؤال في هذا الوقت الذي لا تفصلنا فيه إلا ساعات معدودة عن مسيرة 29 أكتوبر، والتي نريد لها أن تكون نقطة انطلاقة قوية في مسار احتجاجي واع ومدروس وطويل النفس، ولن يكون ذلك المسار الاحتجاجي كذلك إلا إذا تم تحديد الأهداف التي يراد تحقيقها من ورائه.
وإذا ما اكتفينا بالشق السياسي من هذه الاحتجاجات، فسيكون السؤال المطروح هو : هل المعارضة تريد من خلال احتجاجاتها هذه أن تضغط على النظام لإجباره على الدخول معها في حوار جدي شامل، ولتعزيز موقفها التفاوضي في أي حوار قادم؟ إذا كان الجواب بنعم على هذا السؤال فإن الشيء الذي يمكن لفت الانتباه إليه هنا هو أن النظام القائم قد عرف بعدم احترامه للوعود والمواثيق، ولذلك فعلى المعارضة في هذه الحالة أن تكون حذرة جدا خلال كل مسارها التفاوضي مع النظام.
أما إذا كانت الإجابة على السؤال أعلاه تقول بأن المعارضة تسعى من وراء احتجاجاتها هذه إلى تأزيم الأوضاع وإلى تعقيدها بهدف تهيئة الظروف المناسبة لقيام انقلاب عسكري أو ثورة شعبية.
إذا كان هذا هو الجواب على السؤال أعلاه، فعلى المعارضة أن تعلم في هذه الحالة بأن هذا الهدف ممكن التحقق، خاصة وبعد أن ثبت فشل النظام في تغيير الأوضاع نحو الأفضل، ولكن لهذا المسار مخاطر جمة منها أن المعارضة سيتم تغييبها عند اللحظة الحاسمة من هذا المسار، وستكون خارج دائرة الفعل، فالانقلاب العسكري هو قرار يتم اتخاذه في دائرة عسكرية ضيقة ومغلقة، أما الثورات فهي كالموت لا تأتي إلا بغتة، ولا أحد يستطيع أن يتحكم في توقيتها أو في مسارها إن هي انفجرت ..صحيح أنه بإمكان المعارضة أن تؤزم الأوضاع من أجل التعجيل باشتعال ثورة شعبية، ولكن الصحيح أيضا أنه لن يكون بإمكان هذه المعارضة أن تحدد التوقيت، ولا أن تتحكم في مسار الثورة ولا في مآلاتها.
إن المقلق في هذا الخيار هو أن كل الدلائل تشير إلى أن الانقلاب القادم لن يكون ناصع البياض، ومن الراجح بأن قيادات عسكرية من الصف الثاني هي التي ستقوده مما سيزيد من احتمالات إراقة الدماء، وعندما تسيل الدماء على هذه الأرض بسبب ثورة أو بسبب انقلاب، في فترة كهذه، وفي منطقة مضطربة كمنطقتنا، فإن احتمال تفكك الدولة الموريتانية وانهيارها سيبقى هو الاحتمال الأقوى.
تلكم كانت مجرد أسئلة من بين أسئلة أخرى (سأخصص لها ـ إن شاء الله ـ مقالا آخر)، وعلى المعارضة أن تعد ـ ومن الآن ـ أجوبة واضحة ومحددة على هذه الأسئلة، أما إذا ما قررت هذه المعارضة أن تبقى معارضة ردود أفعال، أي أن تنتظر فعل السلطة حتى تتخذ هي ردة فعل، فعليها في هذه الحالة أن تتأكد بأن الفرصة المتاحة أمامها اليوم ستضيع كما ضاعت بالأمس فرص عديدة.
حفظ الله موريتانيا..