عبد الباري عطوان
جاءت الاحتفالات العربية بيوم التسامح العالمي “خجولة”، ربما لان المنطقة العربية تشهد هذه الأيام ابشع أنواع الكراهية والتمييز، والفتن العرقية، والحروب الطائفية، وتستعد لظهور كيانات ودول جديدة وفق هذه النزعات والصراعات التي تغذيها جهات خارجية بأدوات إقليمية.
صحيح ان هناك “صحوة” تسامحية تطل برأسها وسط زحام من التعصب الطائفي والعنصري والعرقي، هنا وهناك، على شكل مسيرات يشارك فيها العشرات، ولكنها تشكل حالات استثنائية، وان كنا لا نشكك في النوايا الطيبة لاصحابها.
لعل المظاهرة الأبرز التي نقف امامها بإحترام في هذا المضمار، تلك التي اقدم عليها أهلنا النصارى في الأرض المحتلة، عندما صعدوا الى اسقف كنائسهم، ورفعوا الآذان عبر مكبرات الصوت، تحديا لقرار إسرائيلي يريد منعه، وتضامنا مع اشقائهم المسلمين، واكد المطران عطا الله حنا ان الاشقاء المسيحيين لن يتخلوا عن فلسطين والقدس حتى لو تخلى عنها كل العرب، وسيظل الآذان في القدس المحتلة عاليا قويا، وستبقى أجراس الكنائس أيضا.
***
مؤلم ان يأتي اليوم العالمي للتسامح والعرب والمسلمون يقتلون بعضهم بعضا في سورية والعراق واليمن، ويتم تسخير امبراطوريات إعلامية جبارة جرى انفاق مليارات الدولارات على تأسيسها وتشغيلها لتأجيج نيران الطائفية والعنصرية لصب المزيد من الزيت على نيرانها لزيادتها اشتعالا، واستضافة شيوخ الكراهية والتحريض على التطرف ونبذ الآخر بل وقتله.
التسامح في رأينا، ومئات الملايين مثلنا، هو ان نتعايش في اطار من المساواة واحترام الآخر وعقيدته وثقافته، وفي اطار حكم رشيد عادل، يطبق القانون على الجميع دون أي استثناء او تمييز بين الأمير والفقير، المواطن والوافد، القوي والضعيف، وبعيدا عن التصفيات المستفزة، هذا قبلي وهذا خضيري، وهذا عبد وهذا سيدا، وهذا عربي وذاك مستعرب، هذا هندي وذاك وطني.
التسامح هو ان نفتح قلوبنا وبيوتنا وحدودنا للنازحين الفارين بأرواحهم من القتل والدمار، فمن العار ان تهرع الدول الغربية لاستقبال ملايين المهاجرين السوريين بينما تغلق حكومات عربية تدعي مساعدتهم والوقوف الى جانبهم، وتنفق المليارات على تسليحهم، أبوابها في وجوههم، وهم العرب والمسلمون الذين كانوا سباقين في احتضان الاشقاء واقتسام لقمة الخبز معهم.
التسامح هو ان يتوقف الاغنياء المترفين عن كنز مئات المليارات في البنوك الأجنبية، وان يقوموا باستثمارها في بلاد فقيرة معدمة، يعاني أبناؤها من البطالة، والعوز، والفاقة، وانعدام الخدمات الصحية والتعليمية، والحد الأدنى من العيش الكريم.
التسامح الحقيقي هو عدم قتل السني للشيعي لانه شيعي، والشيعي للسني لانه سني، والعربي للكردي، والكردي للعربي، الى آخر قائمة القتل الطائفي والعنصري الطويلة، التي باتت وصمة عار متأصلة في منطقتنا المبتلاه.
التسامح ان نؤمن بالحوار ونمارسه، والتعايش ونرسخه، والتكافل ونحوله الى عقيدة، وسلوك ومنهاج عمل، وخريطة طريق لمستقبل افضل.
***
لا نستطيع ان نتحدث عن التسامح والطائرات تقصف أهلنا في اليمن وفي سورية وفي العراق، ويعيش عشرات الملايين تحت حصار قاتل، ولا يجد الأطفال المنتفخة بطونهم علبه حليب لارضاعهم، وتجف ضروع امهاتهم من الجوع والحرمان ونقص التغذية.
التسامح ثقافة وعقيدة وممارسة، وهذه الثقافة يجب ان يبدأ تدريسها منذ سن الحضانة وحتى المراحل التعليمية المتقدمة، وفي اطار قوانين تجرم العنصرية والكراهية والتمييز.
التسامح اعلام مسؤول، وحكام قدوة ونموذج، وحكومات ديمقراطية تحكم بالعدل.
هذا هو المعيار الحقيقي للتسامح، ونحن كعرب احوج الناس اليه، لان غيابه، او تغييبه، من ابرز الأسباب التي تقف خلف وصولنا الى حالة الانهيار التي تعيشها حاليا على الصعد كافة.
وكل تسامح وانتم بألف خير.