من أهداف الاستشراق - وخاصة الاستشراق اليهودي - نقل مشكلات اللاهوت الغربي إلى الفكر الإسلامي، فتناقض العقل والنقل، والدين والدولة، والدنيا والآخرة، والذات والآخر، هي مشكلات غربية حاول عدد من المستشرقين اليهود زرعها في الفضاء الإسلامي.
ولأن اللاهوت الغربي قد شهد تيارا فكريا قام بنقد النصوص الدينية المؤسسة لليهودية والمسيحية، ومنها كتاب "تاريخ نقد العهد القديم من أقدم العصور إلى العصر الحديث" الذي كتبه علماء يهود متخصصون في نقد النصوص، وجمعه العالم اليهودي "زالمان شازار" والذي ترجمه ونشره المجلس الاعلى للثقافة بمصر عام 2000م، ولأن دائرة المعارف الأمريكية قد وصلت بعدد الأناجيل إلى ما يقارب المائة، فلقد سعى عدد من المستشرقين إلى زرع هذه المشكلة الغربية في الفكر الإسلامي، وذلك بالحديث عن اختلاف المصاحف وتعددها، والادعاء بأن المصحف الإمام - الذي بين أيدينا - والذي اجتمع عليه المسلمون منذ صدر الإسلام، قد حدثت فيه اختلافات مع صحف ومصاحف أحرقها عثمان بن عفان.
وبعد عقود من هذه الدعاوى، التي تخصص فيها واجتمع عليها عدد من المستشرقين اليهود، شهدت "دائرة المعارف الإسلامية" - التي يصدرها الاتحاد العالمي للاستشراق - بأن جميع الاختلافات - التي زُعمت - قد انهارت الثقة فيها وأصبحت لا قيمة لها"!.
وفي تفصيل هذا الانهيار لهذه "المطاعن الاستشراقية" -اليهودية - أوردت "دائرة المعارف الإسلامية" هذه الحقائق:
1- أن علي بن أبي طالب - الذي يقال أنه قد تفرغ لجمع القرآن عقب وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم - هو ذاته الذي أحرق نسخة من المصحف بعد ظهور المصحف الإمام.
2- أن جميع الاختلافات التي ذكرت بين المصاحف - وخاصة بين مصحف ابن مسعود والمصحف الإمام - رواياتها مسبوقة بكلمة "يقال" التي تفيد بضعف هذه الروايات.
3- وأن ما قيل عن أن مصحف ابن مسعود لم تكن به سورة الفاتحة، ينقضه أن المسلمين جميعا يصلون جميع صلواتهم بسورة الفاتحة، منذ فُرضت الصلاة، كما أن ابن النديم (438 هـ - 1047م) قد قرر عام (377 هـ - 987م) أنه رأى نسخة من ابن مسعود تعود إلى عام 77 هـ وفيها سورة الفاتحة.
4- أن حرق المصاحف السابقة على المصحف الإمام كان لدواعٍ كثيرة، منها احتواء بعض هذه المصاحف على كلمات "مفسرة وشارحة" لبعض ألفاظ القرآن، فتم حرق هذه المصاحف حتى لا تختلط عند العامة هذه الشروح والتفسيرات بالنص القرآني، فليس في الأمر اختلافات بين المصاحف، وإنما هي كلمات شارحة كتبها البعض في الصائحف التي دونوا فيها - لأنفسهم - سورا من القرآن الكريم، وذلك من مثل: وضع كلمة "جعل" قرين كلمة "أرسل" بمصحف ابن مسعود في الآية "وهو الذي أرسل الرياح بشرا" (الفرقان 48)، وكلمة "ننشر" قرين كلمة "لنحيي" في الآية "لنحيي به بلدة ميتا" (الفرقان 49) وكلمة "قصورا" قرين كلمة "بروجا" في الآية "تبارك الذي جعل في السماء بروجا" (الفرقان 61) وكلمة "يتفكر" قرين كلمة "يذكر" في الآية "لمن أراد أن يذكر" (الفرقان 62).
هكذا شهدت "دائرة المعارف الإسلامية" - بلسان المستشرقين - على انهيار دعاوى اختلاف المصاحف، وقام الإجماع على أن جامع القرآن - على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم - هو الله "إن علينا جمعه وقرآنه" وعلى أن أبا بكر وعمر قد جمعا الصحف المكتوب فيها القرآن - كما تجمع ملازم الكتاب الواحد - وعلى أن جمع عثمان بن عفان إنما كان على الكتابة والقراءة بلغة قريش، التي نزل بها القرآن، بعد توحد الأمة على هذه اللغة، وزوال دواعي رخصة القراءة على الأحرف السبعة.
الكاتب: د. محمد عمارة