قال الوزير السابق الدكتور البكاي ولد عبد المالك في مقال كتبته تحت عنوان : المدرسة الموريتانية تعيد انتاج الفوارق ! ، إنه في ظل هذا الحال لدينا ثلاث خيارات هي :
- خيار التمسك بالدولة الموحدة القوية مع إقرار التنوع الثقافي (diversité culturelle)
- خيار الفدرالية الخاضعة لنموذج التعددية الثقافية (multiculturalisme) مع وجود إقليمين : إقليم للشمال وآخر للجنوب
"خيار" الانقسام والحرب الأهلية الذي وإن كنا لا نعده خيارا في ذاته إلا أنه للأسف احتمال لا يمكن استبعاده
و هذا نص المقال كما وصل مراسلون
عندما اجتاحت جيوش نابليون الغازية ألمانيا صاح الفيلسوف فيشته في أعقاب الهزيمة المذلة للجيش البروسي قائلا : لقد خسرنا كل شيء لكن بقيت لنا التربية! « Nous avons tout perdu, disait Fichte, mais il nous reste l’éducation ».
فبالمدرسة وحدها نستطيع أن ننتصر لأن أمة بدون مدرسة أمة مهزومة. لكن المدرسة ليست مباني ولوازم مدرسية وطواقم إدارية وتربوية إنها أكثر من ذلك بكثير، إنها مشروع حضاري يبني الأمم ويوفر لها عوامل القوة والحماية من التفكك والاندثار: إنها مجتمع مصغر على غراره يُصنع المجتمع الكبير وهي معمل صغير ينتج الوحدات الكبيرة ثقافيا واجتماعيا وتكنولوجيا هكذا علمنا علماء سوسيولوجيا التربية.
صحيح أن الوظائف التي تضطلع بها المدرسة تختلف بحسب السياق الحضاري للدول وبحسب طبيعة بنياتها الثقافية والمجتمعية. لكن في كل الأحوال ولأسباب موضوعية تبقى الوظيفة الأساسية للمدرسة في مجتمع كمجتمعنا هي وظيفة الاندماج الاجتماعي والقضاء على الفوارق الاجتماعية والاقتصادية والتربوية بين فئات الشعب من خلال التنشئة الاجتماعية والأيديولوجية المناسبة وليس العكس.
المدرسة هي الحل السحري لجميع المشكلات: الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية والأيديولوجية التي نعاني منها في الوقت الراهن : فإذا كان لدينا تطرف اجتماعي فذلك لأنه ليست لدينا مدرسة.. وإذا كان لدينا تزمت ديني متصاعد يوشك أن ينفجر ويفجر البلد معه فذلك لأنه ليست لدينا مدرسة.. وإذا كان لدينا تفاوت كبير في الفرص وفي امتلاك الثروة بين مكونات شعبنا فذلك لأنه ليست لدينا مدرسة.. وإذا كان فينا انفصاليون يروجون لثقافة داخل الثقافة ودولة داخل الدولة فذلك لأنه ليست لدينا مدرسة.. الفقر والجهل والمرض وكل الأمراض المستوطنة موجودة كلها في هذه البلاد لأنه ليست لدينا مدرسة.. وإذا كان "وعينا" يعاني من الاغتراب والتمزق والتمدد عبر المجال فذلك لأنه ليست لدينا مدرسة ولأن تلك العوارض كلها هي في الحقيقة انعكاس للرسالة الحضارية للمدارس التي تكونت فيها معظم النخب الفكرية الوطنية...
بناء على ذلك وفي ظل تصاعد الفئوية المعممة (التي يبدو أنها لم تعد تستثني مكونا بعينه من مكونات المجتمع) وفي ظل تنامي النزعات العرقية الانفصالية والتطرف بكافة أشكاله... وفي ظل انعدام الرؤية لدى الجميع لا يكون أمامنا كدولة سوى ثلاثة خيارات :
1- خيار التمسك بالدولة الموحدة القوية مع إقرار التنوع الثقافي (diversité culturelle) والدفاع عنه باعتباره خيارا استراتيجيا والبحث عن سبل تضمن التوزيع العادل للثروة بطرق سليمة.
2- خيار الفدرالية الخاضعة لنموذج التعددية الثقافية (multiculturalisme) مع وجود إقليمين : إقليم للشمال وآخر للجنوب
3- "خيار" الانقسام والحرب الأهلية الذي وإن كنا لا نعده خيارا في ذاته إلا أنه للأسف احتمال لا يمكن استبعاده إلا عن طريق الإرادة الجادة الواعية بحدود ممارستها.
ومع ذلك فإن هذا الخيار الأخير ليس في الحقيقة خيارا ولا يصبح كذلك إلا في حالة بقاء الأمور على حالها : صراع ثقافي حول السياسات اللغوية (المسألة الثقافية بأبعادها المتعددة: اللغوية والسياسية...) ؛ صراع طبقي متعدد الأبعاد وفوارق اجتماعية واقتصادية كبيرة ناجمة عن سوء توزيع الثروة لأسباب تاريخية موضوعية أبرزها ظاهرة العبودية ومخلفاتها...إلخ.
أما الخيار الثاني وهو خيار الفدرالية وإن لم يكن هو الخيار الأفضل بالنسبة إلينا إلا أنه أفضل من الانقسام والحرب الأهلية : ويتعلق الأمر بنظام فيدرالي يقوم على سياسة التعددية الثقافية على الطريقة الكندية بتقسيم البلد إلى إقليمين لكل منهما استقلال ذاتي في مجال السياسات التربوية والتسيير الاقتصادي والإداري مع احتفاظ النظام الفدرالي بالسياسة الخارجية والدفاع .
إلا أن هذا الخيار في الواقع تعترضه عمليا صعوبات جمة تجعله غير قابل للتطبيق منها على سبيل المثال لا الحصر :
- أنه غير مقبول لدى الغالبية الساحقة من الشعب الموريتاني وحتى عند بعض "الجنوبيين" أنفسهم لأسباب مختلفة.
- ينضاف إلى ذلك ضبابية مصطلح "الجنوبيين" و"سكان الضفة" من جهة ومصطلح "الشماليين" وصعوبة وضع معيار دقيق وموضوعي للفصل بين الإقليمين : فلا التاريخ ولا الجغرافيا ولا الهندسة الاجتماعية والنماذج الثقافية والروحية تسمح بوضع حدود فاصلة بينهما.
- بقاء الفوارق الاجتماعية في أحد الإقليمين أو فيهما معا لن يساعد في استقرارهما وستكون بؤرة للتوتر الدائم مما قد يؤدي إلى ظهور انقسام جديد وهكذا نشهد انفجارا مستمرا للهويات الفرعية إلى ما لا نهاية.
لكن المشكلة الحقيقية التي تواجه خيار الفدرالية هي أنه ليس قابلا للتطبيق إلا في بلدان ديمقراطية وعلى درجة كبيرة من الوعي السياسي والحضاري ومن الثقافة الديمقراطية كما في النموذج الكندي. أما في الدول المتخلفة ذات البنية القبلية والفسيفساء الاجتماعية المتعددة فإن هناك دائما خطر الانزلاق نحو نماذج أخرى مأساوية لدول شقيقة لا أجد المقام مناسبا لذكرها هذا بالإضافة إلى إمكانية قيام صراع لا ينتهي بين الإقليمين حول الحدود ومصادر المياه والمراعي والأراضي الزراعية إلخ وهو ما يتطلب درجة كبيرة من الوعي والنضج الديمقراطي مما لا نتوفر عليه في الوقت الحالي.
وعليه فإن هذا الخيار لا يمثل في الواقع بديلا عمليا يمكن التعويل عليه ويكفي أن المروجين له يدركون بالفعل الصعوبات الجمة التي تحول دون تحقيقه.
يبقى لدينا خيار واحد عملي وقابل للتطبيق إذا ما اتخذت له التدابير اللازمة إنه خيار الدولة الوطنية القائم على التخطيط الواعي لاندماج اجتماعي حقيقي ولعدالة اجتماعية حقيقية ولن يكون ذلك ممكنا إلا بالقيام بتغيير جذري في وظائف المدرسة وخاصة في وظيفتها الاجتماعية .
باختصار نحن مضطرون إلى تحديد خياراتنا من الآن والعمل على تحقيقها وتوفير الشروط الضرورية لذلك لأن الوقت ليس في صالحنا وما ليس خيارا الآن قد يصبح حقيقة واقعية في وقت ما ومسار الأحداث دليل على صحة ما ذهبنا إليه. وعليه يتعين على النخب السياسية الحاكمة الخروج من سياسة النعامة وترك الظروف في كل مرة تفرض خياراتها علينا خيارات قد لا تكون بالضرورة في صالحنا بل لن تكون بالتأكيد في صالحنا بسبب تضافر عوامل عديدة داخلية وخارجية. ومع أنني لست ممن يؤمن بنظرية المؤامرة إلا أن هناك أطرافا محلية ودولية وإقليمية قد يكون من مصلحتها تفكك هذا الكيان لسبب أو لآخر. هذا المسار لا يمكن إيقافه إلا بالتخطيط للمستقبل وقد عرفنا أن غياب التخطيط هو تخطيط للفشل.