ليس هناك شك في ان حالة من الانقسام والاختلاف تسود أمريكا حيث يمكن الاستماع بوضوح إلى رسائل مختلفة ومتناقضة عقب الأحداث الأخيرة التي جرت في الولايات المتحدة مثل تنصيب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب والمسيرات النسائية. ولا جدال في ان البلاد تتألف من معسكرين: أنصار ترامب من جهة ومعارضة ستقاوم بضراوة مهما كانت التكاليف.
الانقسام الأمريكي ظهر بوضوح على مدى الثمانية عشر شهرا الماضية باشكال مختلفة من بينها العرق والدين والجنس والرمز البريدي، ويرجع ذلك إلى حملة ترامب الانتخابية التي سلطت الضوء على «الأشياء الصغيرة» التي تفرق بين الشعب الأمريكي بدلا من التركيز على «الأشياء الكبيرة» التي توحد الأمة، والآن، أصبح «ممثل الانقسام» رئيسا للبلاد وقائدا للقوات المسلحة.
وتعهد ترامب خلال مراسيم التنصيب بنقل السلطة من «رجالات واشنطن» إلى الناس، وفي طبيعة الحال، ردد شعاره المعتاد بجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى ولكنه فشل في تحديد كيفية تحقيق هذا الهدف ما يعني ان العيون ستراقب جيدا ما سيفعله هذا الرئيس خلال أول مئة يوم من ولايته. إذا أراد ترامب بالفعل مساعدة المواطنين البسطاء أو «الرجال الصغار» وفقا للمصطلح الأمريكي الشعبي الدارج، فان عليه تركيز الجهود على القضايا الداخلية الحرجة التي تواجه الولايات المتحدة وتنفيذ تعهدات تحظى باحترام وليست مصدرا للخلاف مثل تنفيذ مشروع قانون البنى التحتية الذي يكلف نحو تريليون دولار، وهذا المشروع كما قال المحلل ريتشارد فولير سيخلق الملايين من فرص العمل لتنفيذ تحسينات ضرورية تحتاجها الجسور والمطارات والطرق والأنفاق، واضافة إلى ذلك، فان تنفيذ هذه الوعود الإيجابية سيمنح ترامب فرصة ليبرهن على جديته وصدق نواياه، وهذا النجاح سيعني، أيضا، ان ترامب سيحاول معالجة عبء الديون قبل فوات الأوان.
حرفية رجل أعمال
وثار جدل واسع حول قانون الرعاية الصحية بأسعار معقولة «أوباما كير» وهناك اتفاق ان القانون ليس مثاليا ولكن اصرار ترامب على مسخه سيمثل خطوة للوراء بالنسبة للملايين من الأمريكيين الذين سيفقدون الرعاية الصحية، وبدلا من القضاء على ارث أوباما هناك آمال ان يسعى ترامب وانصاره إلى العثور على بديل من شأنه الحفاظ على تكاليف منخفضة مع مستوى التغطية نفسه، وهي آمال تبدو ضعيفة للغاية خاصة بعد نشر تعليقات عنيدة من النائب توم برايس، سكرتير الخدمات الإنسانية والصحية في إدارة ترامب، تفيد ان الإدارة مصممة على الغاء القانون.
من المرجح، ان يواصل ترامب اصدار المزيد من القرارات الحاسمة أو المثيرة للجدل في أول مئة يوم من ولايته، وهي فترة ستضبط انغام السنوات الأربع المقبلة، ومن غير المتوقع ان يدرك ترامب ان انتخابه المثير للجدل قد يتحول إلى فجوة هائلة بين الشعب الأمريكي.
من الواضح، ان ترامب يمارس اللعبة السياسية بطريقة ذكية للغاية وحرفية رجل أعمال قد تمكنه من تجاوز المعارضة المتصاعدة حيث وافق على اقتراحات نواب الحزب الجمهوري في الكونغرس بشأن الضرائب كما بدأ يتحدث مع المشرعين الجمهوريين بمودة غير مألوفة وقال انه يقف معهم «كتفا لكتف» وبدلا من التهجم على الرئيس المكسيكي انريكي بينا الذي ألغى اجتماعا معه في البيت الأبيض بعد تصريحات فجة بشأن الجدار الحدودي المقترح بين الولايات المتحدة والمكسيك، زعم ترامب ان قرار الغاء الاجتماع كان باتفاق متبادل بين الطرفين في حين كشف السكرتير الصحافي شون سبيسر المزيد من التفاصيل حول كيفية دفع ثمن بناء الجدار الحدودي بالقول ان إدارة ترامب تنوي تنفيذ خطة من الاصلاح الضريبي الشامل وتحصيل المزيد من واردات الضرائب من الدول التي تتمتع بفائض تجاري مع الولايات المتحدة مثل المكسيك وبالتالي توفير التمويل بسهولة لبناء الجدار من خلال آليات قليلة.
فكر بجميع الأشياء التي سنحققها
ولا تتوقف نوايا إدارة ترامب عند هذا الحد حيث ابتسم ساخرا وهو ينظر إلى حشد من المشرعين قائلا ان الإدارة ذاهبة لتحقيق صفقات تجارية عديدة أخرى لتحل محل اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ التي انسحبت منها الولايات المتحدة رسميا، وفي لغة غزل واضحة مع الكونغرس، قال ترامب ان جدول أعمال الكونغرس سيكون مزدحما للغاية وان التشريعات المنتظرة منذ عقود ستحدث، وردد خلال حديثه عبارات تشبه الشعارات والدعايات التجارية مثل: فكر بجميع الأشياء التي سنحققها.
هذه التصريحات التي حظيت بتصفيق فاتر تشير إلى ان الايديولوجيا السياسية لترامب ترافق أجندته الاقتصادية، وتشير ردود فعل الحزب الجمهوري إلى ان هناك اتجاها بدعم قرارات ترامب وعدم معارضته، وعلى حد تعبير رئيس مجلس النواب بول راين ونائب الرئيس مايك بنس ليس هناك خيار آخر إلا عبر هذا الطريق المختلف حيث يأمل هولاء ان يعمل قانون اصلاح النظام الضريبي على تخفيض العجز التجاري. وبالنسبة لترامب، الحرص على توفير خفض الانفاق وسد الفجوة في الميزانية لا ينطبق قطعيا على ميزانية الجيش حيث قال ان الانفاق العسكري أكثر أهمية من تحقيق التوازن في الميزانية الاتحادية مشيرا إلى ان الجيش القوي أكثر أهمية من أي شيء، وجاءت هذه التصريحات بعد ان أعرب السيناتور جون ماكين عن قلقه من اختيار ترامب للنائب ميك مولفاني لرئاسة مكتب الإدارة والميزانية.
القرارات المتوقعة لإدارة ترامب ستشمل منع دخول اللاجئين من سوريا التي مزقتها الحرب ومنع دخول أي مهاجر من عدد غير قليل من الدول العربية مثل السودان والصومال والعراق وليبيا واليمن وهنالك خطط أوسع لإعادة تشكيل الهجرة إلى الولايات المتحدة ووضع قواعد دائمة جديدة اضافة إلى تشكيل جديد لسياسة الأمن القومي وهنالك اجراءات مقبلة ضد أكثر من 11 مليون مهاجر غير قانوني بما في ذلك اجراءات صارمة ضد أرباب العمل.
وجاء استقبال ترامب لمجموعة من أقارب أفراد تم قتلهم على أيدي عدد من المهاجرين غير الشرعيين ليفيد انه ينوي اصدار تشريعات أخرى لدعم رجال الشرطة وانفاذ القانون على حساب الحريات المدنية وحقوق الأقليات والفئات المهمشة، وعلى حد تعبيره فان إدارته مصممة على استعادة سيادة القانون في الولايات المتحدة.
إدارة ترامب كانت واضحة للغاية منذ الساعات الأولى في إحداث تغيير جذري في سياسات الإدارة الأمريكية السابقة بشأن المناخ والمياه، حيث ألغى ترامب العناصر الرئيسية من سياسة أوباما بشأن البيئة وهي خطة العمل للمناخ وقوانين سيادة المياه اضافة إلى الغاء خطة العمل بشأن الحد من انبعاثات الكربون، وبدلا من الاهتمام بالأنهار والبحيرات والأراضي الرطبة المحمية من قبل وكالة حماية البيئة فان اهتمامات إدارة ترامب تركزت على خطط لاستغلال احتياطات الصخر الزيتي والنفط والغاز الطبيعي في الأراضي الفدرالية واحياء صناعة الفحم، وهذا ليس بالأمر الغريب على ترامب الذي وصف «تغير المناخ» انه عبارة عن خدعة، وقال انه سيسمح ببناء خط الأنابيب العملاق المعروف باسم خط داكوتا واحياء مشروع كيستون في تحركات تعتبر انها لا تحترم مشاعر قبائل الهنود الحمر.
وبالنسبة إلى اجراءات إدارة ترامب المقبلة بشأن الرعاية الصحية فالخطة غير واضحة، حيث قال ترامب ان الخطة ستكون كبيرة بدون تفاصيل، والمفهوم هنا، ان إدارته ستستبدل قوانين الرعاية الصحية في عهد أوباما بقوانين جديدة، وعلى الأرجح، سيطرح ترامب خطة خاصة بدلا من ترك الكونغرس لأخذ زمام المبادرة مع الأخذ بعين الاعتبار توجيهات وتوصيات الحزب الجمهوري، وما يزيد من تصريحات ترامب غموضا ما اقترحه بان تشريعات الرعاية الصحية ستغطي الجميع وانه لا يريد تقديم منح حكومية لبرنامج الرعاية الصحية المجانية الذي يقدم خدمات صحية مجانية للفئات الفقيرة جدا.
وتنوي إدارة ترامب الغاء الكثير من التشريعات الحكومية القديمة في الأعمال إذ تعهد ترامب انه سيخفف اللوائح الحكومية كما أصدر أمرا تنفيذيا ينص على اصدار تعليمات لتبسيط العمليات التنظيمية للشركات بهدف تخفيض الخطوات المرهقة في عملية الحصول على تصريح أو الإنتاج.
رئاسة ترامب ستنتج تحولات كبيرة في السياسات بعدة جوانب أساسية من الحياة الأمريكية، ومن الواضح ان البلاد ستشهد أياما عصيبة وهي تستقبل المزيد من القرارات الصادمة في الشؤون الداخلية «الرعاية الصحية، الهجرة، المحكمة العليا، البنية التحتية، الطاقة، المحاربين القدامي والجيش» وفي شؤون الاقتصاد «الضرائب، الميزانية والضمان الاجتماعي» والشؤون الخارجية والأمن القومي «إيران، الصين والدفاع»، وعلى الأرجح، سيزداد الانقسام في المجتمع الأمريكي خلال الأربع سنوات المقبلة.
رائد صالحة