اطلعت في الآونة الأخيرة على فقرات وردت في سياق مقابلات ومقالات للسيدين محمد ولد العابد و محمد الأمين ولد ديداه استدعت مني الإدلاء بجملة من الملاحظات سأسوقها في هذه العجالة:
أولا: بالنسبة لمقابلة السيد محمد ولد العابد فإن ما يستدرك عليه بادي الرأي على الصعيد المنهجي أنه ساق كلاما يقول فيه : "خلافا لأولئك، من إخواننا الموريتانيين الذين اختاروا ،تحت طائلة الخوف أو بدافع المصلحة أن يدعموا النظام...." إلى آخر حديثه ، ثم لم يخطر بباله أن يشرح لنا الدوافع التي حدت به إلى تبني الموقف الذي اتخذه ،هل كان ذلك بسبب الخوف أو كان جريا وراء مصلحة ما ،أو لدواع أخرى؟
أما الاستدراك المنهجي الثاني فينصب على قوله ".... أبناؤه يعبؤون أنفسهم من أجل وضع حد لهذا النظام واستبداله بنظام جدير بالاحترام" فهو هنا لم يحدد الآلية أو الطريقة التي سيحقق بها هذا الهدف ، هل سيسلك سبيل العنف من أجل الوصول إلى ذلك أو سينحو منحى ديمقراطيا لتحقيق غرضه؟ و باختصار.. فإن وزير الاقتصاد السابق الذي يكاد هدفه ينحصر في ما يبدو في تحميل النظام كل ما يخطر بباله من وزر، يبلغ به الشطط إلى الحد الذي يقول فيه: "....لم تعد ميزانية الدولة موجودة ...ما نشهده هو تسيير للميزانية....فعند كل نهاية سنة يصار إلى قانون مالي معدل يستهدف تسوية الوضع المالي...." إن مثل هذا الكلام ينطوي على تناقضات بديهية، فهو ينكر في البدء وجود الميزانية ، و يعترف بما يسميه تسييرا للميزانية ثم يقر في النهاية بوجود قانون مالية معدل .
ومما يجدر التنبيه إليه هنا أن وجود قانون مالية معدل يفترض أن يكون قد استبقه وضع قانون مالي مبدئي ،كما أن قانون المالية المعدل لا يعدو كونه من جملة إجراءات الميزانية المعهودة التي لا يمكن أن تفسر بحال من الأحوال بكونها مظهرا من مظاهر سوء التسيير،بل الأمر يتعلق بعملية تعديل للتوقعات حتى تقارب الواقع. وعلى صعيد آخر فإن ما نود تأكيده للوزير السابق أن الفحص المتأني (البعيد كل البعد عن الأحكام المسبقة) للمعطيات المتاحة الخاصة بالصفقات التي تثار الشكوك بشأنها تجعلنا نستجلي الحقائق البارزة للعيان (كما هو الحال بالنسبة لمطار أم التونسي :الذي دخل طور الخدمة وميناء التانيت الذي تأخر إنجازه لدواعي إجرائية...).
ومن ناحية أخرى فإنكم يا ابن العابد حين تقولون :"إن شعارات "محاربة الفساد " و"رئيس الفقراء " ....انخدع بها البعض" فإن ذلك يقتضي منكم أن تبذلوا جهدا لتبينوا لنا مصدر المبالغ الطائلة المودعة في حسابات الخزينة وصندوق الإيداع الخاص بها ،ومعلوم لدى الجميع أن هذه المبالغ متأتية من الأموال المسترجعة من عمليات الاختلاس ،ومن ما تم توفيره بعد الحد من سوء استعمال الأموال الخاصة بالإعانات والمساعدات ومن تكرار الوظائف و المرتبات ، واللائحة تطول ...
وفي النهاية فإنه مما يجب التنبيه عليه ، أننا قبل أن نتساءل بشأن ظروف تسديد التزامات الدولة ، فعلينا أن نبدأ بملاحظة ما يراه الجميع ويجمع عليه ، ومن ذلك على سبيل المثال لا الحصر الطوابير الطويلة التي كانت تمتد في ما مضى أمام إدارات المالية (الخزينة ،الميزانية إلخ ...) التي اختفت تماما في السنوات الأخيرة، وهو ما يدل بجلاء على ما تحقق من انسيابية تامة على مستوى شبكات التسديد المتعلقة بتلك الالتزامات .
ثانيا: أما ما ورد في مقال للسيد محمد الأمين ولد ديداه فقد جاء في قالب رد جوابي ، و يقول في مقطع من مقاطعه :"لقد عمدت الحكومة بإصرار على المحافظة على تثبيت كتلة الميزانية عند نفس الحد طيلة ثلاث سنوات متتالية ....على الرغم من ما اصطلح على تسميته "بالريع الضخم المتأتي من تصدير المواد الأولية" ، ثم يعود السيد محمد الأمين فيتهم الحكومة باللجوء إلى تبني سياسة جبائية مشطة لتحصيل المزيد من الموارد. ونذكر في هذا الصدد أن مستوى الجبايات الذي تحدث عنه لا تمكن مقارنته بما سجل من خسارة مترتبة على تدهور مداخيل الأنشطة المعدنية التي يفترض أن يتم تعويضها .
هذا من جهة ،ومن جهة أخرى فالرسوم الموظفة على المواد البترولية التي أشار إليها هي في واقع الأمر قديمة ولا يمكن وضعها بشكل كامل في خانة رسوم مستحدثة (نسبة 240% رقم مغلوط لكونه يعبر ببساطة عن محصلة لقيم تراكمية لسنوات ثلاث هي 2014،2015،2016). ونذكّر في هذا الصدد أن كل نقص في موارد الميزانية يتحتم أن يتم تعويضه ، قصد تمويل المشاريع الاستثمارية الخاصة بالبنية التحتية الهامة التي لا يمكن التخلي عنها،وهو أمر يستلزم اللجوء إلى تعبئة الموارد الداخلية أو التوجه إلى الاستدانة من الخارج.وخارجا عن ذلك فعندما يؤكد الوزير السابق قائلا:" يجب أن نذكّر بأن النمو ليس دائما مرادفا للتنمية..." ، فهنا لسنا بحاجة إلى أن نذكر أن (برنامج إعادة الهيكلة الاقتصادية والمالية) قد حقق في حينه نسبة نمو كبيرة إلى حد ما (أكثر من رقمين بين 1985 و1987) ،وهو ما حدا بالممولين إلى إدماج البعد الاجتماعي في مخطط الإصلاح البنيوي،و ترتب عن ذلك اعتماد الخطة المشهورة بالإطار الاستراتيجي لمحاربة الفقر ابتداء من 2001 والتي أظهرت بجلاء أن النمو غير مرادف للتنمية.
ونذكّر في نهاية المطاف خبراءنا الاقتصاديين أن تقييم الأرقام التي تحدثوا عنها منذ 2008 (نسبة التضخم ،أسعار الصرف ...) و تبيين المستوى الذي وصلت إليه المؤشرات الوطنية الكبرى ومقارنتها مع مستوياتها في فترة 2003-2005 كفيل أكثر من غيره بالاستدلال على ما تحقق من رهانات تنموية.
فعلى سبيل المثال مع صدور اليورو (1999-2000) كان سعر الشراء بالنسبة ل 1يورو = 220 أوقية ،و1 $ = 230 أوقية ، وفي 31\12\2005 أصبح 1 يورو = 330 أوقية ،و 1$ = 280 أوقية ، وفي 31\12\2016 صار 1 يورو = 370 أوقية ،و 1$ = 355 أوقية؛ فمستوى هذه الأسعار وتطورها من فترة إلى أخرى غني عن التعليق. وبالفعل فالحصيلة التي يعرضون من خلالها ما تحقق من إنجازات يخشى أن تجرد منطق تفكيرهم من كل مصداقية فيصبح بمنأى عن كل نظر متبصر، كما لا يخفى أن مسؤولية البعض منهم عن ما تراكم من إرث اقتصادي سلبي لا يجب أن يؤول بهم إلى مجانفة التفكير السليم ، وحري بهم في هذا المعنى تجنب الوقوع في فخ القراءة السياسوية للوقائع الاقتصادية والمالية.
فلا جدوى من التذكير بالأرقام الرسمية التي تنطلق من سنة 2006 لمعارضتها بأرقام مغلوطة سابقة لها. وفي المحصلة فإنه مما يجدر بمثقفينا ،إذا كانوا بصدد تناول مواضيع من المفترض بهم أن يكونوا على دراية عميقة بها ، التحلى بقدر من الأمانة والصدق تقودهم إلى الاعتراف بالحقائق اليقينية البارزة للعيان.
وبالتأكيد لا تزال هناك ورشات عمل تنتظر الاستكمال ،لكن خطوات كبيرة قطعت وقد تجسدت في إنجازات كبرى في مجال البنى التحتية القاعدية ،والتوازنات الاقتصادية الكبرى ،مدخرات مريحة من العملة الصعبة ،محاربة الفقر ،محاربة الفساد إلخ...وقد ولى إلى غير رجعة عهد:_ أذنات الصرف (رخص SE4 التي تباع لمن يدفع أكثر في السوق ) _ نسب الأرباح الفاحشة على سندات الخزينة _ النسب الجهنمية للقروض ذات الطابع الاقتصادي_ الأصول الوهمية للبنك المركزي_ عقود الإيجار للمساكن _ سعر الصرف القنصلي _ الإنفاق العمومي الموغل في الإسراف إلخ ....
محمد نافع الفضل الجيلاني: خبير اقتصادي ، المدير العام المساعد للمختبر الوطني للأشغال العمومية