غريب حال هذه البلاد، وعجيب هو أمرها، إنها تجمع من التناقضات ما لا يمكن أن يجتمع في أي بلدان من بلدان العالم. في هذا المقال سأحاول أن أتحدث عن "عجائب موريتانيا السبع"، ولكن ومن قبل ذلك فلابد من لفت انتباه "العقلاء" في هذه البلاد بأن هذا المقال لم يكتب لهم، ولذلك فإني أنصحهم بعدم قراءته.
(1)
أنعم الله على أهل هذه البلاد بثروة حيوانية هائلة تقدرها الإحصائيات الرسمية ب22.5 مليون رأس (1.4 مليون رأس من الإبل؛ 1.8 مليون رأس من الأبقار؛ 19.3 مليون رأس من الماعز والضأن)، أي أن المتوسط الذي يمتلكه الموريتاني من المواشي هو خمسة إلى ستة رؤوس، وعلى الرغم من هذه النسبة العالية جدا، فإن برنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة يتحدث في كل عام عن مئات الآلاف من الموريتانيين الذين تهددهم المجاعة.
شيء آخر : تنفق موريتانيا في كل عام ما يزيد على 50 مليار أوقية لاستيراد الألبان.
(2)
أنعم الله على أهل هذه البلاد بشاطئ يعد من أغنى شواطئ العالم بالسمك، وقد تم التعرف ـ حتى الآن ـ علي أكثر من 600 نوع من الأسماك؛ من ضمنها 200 نوع له قيمة تجارية وقابل للتسويق، وتمتلك البلاد واجهة بحرية على المحيط الأطلسي يبلغ طولها 720 كلم، وعلى الرغم من كل ذلك فإن هذه البلاد التي أنعم الله عليها بهذا الشاطئ الغني بالأسماك ما تزال تحتل مراتب متقدمة في لائحة الدول الأكثر جوعا في العالم، والدول الأعلى نسبة من حيث تفشي البطالة. فبأي منطق يمكن لأي عاقل أن يصدق بأن الجوع والبطالة يحتلان نسبة عالية في بلد يمتلك مثل هذه الثروة السمكية الهائلة؟
شيء آخر : إننا نستورد السردين، وإن نسبة هامة من شعبنا العظيم لا تستهلك السمك!
(3)
يوجد في باطن الأراضي الموريتانية، وحسب التقديرات المعلن عنها رسميا : أكثر من 1.5 مليار طن من الحديد، و 25 مليون أونصة من الذهب، و 28 مليون طن من النحاس، و 140 مليون طن من الفوسفات ، و 11 مليون طن من لكوارتز، و 6 مليارات طن من الجبس. هذه الأرض التي يوجد في باطنها هذا الكم الهائل من الثروات المعدنية يعاني نصف سكانها من الفقر حسب الأرقام الرسمية، ويعيش 75% من سكانها بأقل من دولارين في اليوم حسب التقرير السنوي الذي أصدرته المنظمة العالمية للأغذية والزراعة في العام 2015، وهي تحتل الرقم الأول عربيا من حيث انتشار الأمية.
فبأي منطق يمكن لأي عاقل أن يصدق هذه الأرقام والنسب في بلد أنعم الله عليه بهذه الثروة المعدنية الهائلة؟ وإذا ما اكتفينا بالحديد لوحده، فكيف لنا أن نصدق بأن هذه البلاد التي تعد هي الثانية إفريقيا من حيث إنتاج الحديد، والخامسة عشر عالميا، والتي تنتج 13 مليون طن من الحديد في السنة، والتي تمتلك أطول قطار في العالم ظل ومنذ الستينيات ينقل هذه الثروة المستنزفة، فكيف لنا أن نصدق بأن هذه البلاد يعاني نصف سكانها من الفقر والأمية، وبأن الثلث يعاني من البطالة، وبأنها ما تزال تتربع على قائمة الدول الأقل جودة من حيث خدمات التعليم، وبأنا قد احتلت في مجال جودة التعليم المركز 134 من إجمالي 140 دولة شملها التقرير الصادر عن المنتدى الاقتصادي العالمي في العام 2015.
شيء آخر : لقد تمكنا من احتلال هذا المركز المتدني من حيث جودة التعليم في عام تمت تسميته رسميا بعام التعليم!
(4)
أنعم الله على أهل هذه البلاد بأكثر من 500 ألف هكتار صالحة للزراعة، منها أكثر من 135 ألف هكتار من الأراضي القابلة للري علي الجانب الموريتاني من نهر السنغال. هذه البلاد التي أنعم الله عليها بخمسمائة ألف هكتار صالحة للزراعة، هي نفسها البلاد التي يعاني مئات الآلاف من شعبها العظيم من الجوع، وهي نفسها البلاد التي تنفق المبالغ الطائلة في كل عام لاستيراد الحبوب والخضروات والفواكه.
(5)
هذه البلاد التي أنعم الله عليها بكل هذه الثروات المعدنية والحيوانية والسمكية الهائلة، قدَّر لها في نفس الوقت أن يكون عدد سكانها أقل بكثير من سكان مدينة الدار البيضاء في المغرب، ونسبة هامة من سكان هذه البلاد القليلة العدد هاجرت وأصبح العديد من هذه النسبة المهاجرة يزاول التجارة أو أعمال أخرى في بلدان أخرى، وبالتالي فإنه يدعم الاقتصاد الوطني من خلال ما يحول من عملات صعبة.
نحن أمام بلاد غنية جدا بالثروات الطبيعية وعدد سكانها قليل بالمقارنة مع الدول المجاورة، ومع ذلك فنصف سكانها يعاني من الفقر والأمية. فبأي منطق يمكن لأي عاقل أن يفهم هذا التناقض الحاصل والمتمثل في كون الموريتاني يمكن القول بأنه هو ذلك الشخص الذي يكاد أن يكون هو الأغنى عالميا إذا ما اعتمدنا على نصيبه الذي يمتلك من الثروة الطبيعية، وهو في نفس الوقت ذلك الشخص الذي يكاد أن يكون هو الأفقر عالميا إذا ما نظرنا إلى نسبة الفقر والأمية وتدنى جودة الخدمات التعليمية والصحية في بلاده؟
العجائب لا تتوقف عند هذا التناقض الحاصل في حجم الثروات الطبيعية وانعكاسات تلك الثروات على هذا الشعب القليل من حيث العدد إذا ما قورن بالشعوب الأخرى. العجائب ستزداد عند ما نتذكر بأن بلادنا العظيمة لم تتوقف في أي يوم من الأيام عن استقبال الهبات والمساعدات من العرب والعجم، ومن المسلمين والنصارى، ومن الهند والسند، ومن بني الأصفر وبني الأشقر. يمكن أن تضيفوا إلى كل ذلك القروض والديون التي تم تقديمها، والتي ألغي الكثير منها، ومع ذلك فقد زاد حجم الدين الخارجي إلى أن وصل في العام 2015 إلى 4.95 مليار أوقية، وهو ما يمثل 79% من الناتج المحلي الإجمالي.
مما يزيد الأمر غرابة هو أن هذه الكارثة قد حصلت في سنوات وعقود كنا نسمع فيها بالغدو والآصال، عن جهود جبارة تبذل، وعن قفزات نوعية تتحقق في كل قطاع من القطاعات. فبأي منطق يمكن لأي عاقل أن يصدق بأن بلادنا العظيمة ظلت تقفز وتقفز وتقفز بفعل الجهود الجبارة والتوجيهات السامية والتعليمات النيرة، ومع ذلك فإنها لم تصل إلى كوكب زحل ؟ المصيبة أن هذه البلاد التي ظلت تقفز وتقفز وتقفز توجد الآن في الدرك الأسفل من كوكبنا الأرضي حسب ما تقول مؤشرات التنمية، وحسب ما يقول واقع الناس.
ويبقى شيء آخر :
كل هذا الكلام السابق يمكن أن نلخصه في هذه المعادلة الغريبة التي لا شك أنها ستحير مجانين هذه البلاد أما العقلاء فلا ينتظر منهم شيئا في هذا المجال، وذلك لأنهم هم أصل البلاء. تقول المعادلة :
أرض غنية جدا بالثروات + شعب قليل + هبات ومساعدات كبيرة+ جهود جبارة وقفزات نوعية لا تتوقف= شعب من أفقر شعوب العالم+ مديونية خارجية تكاد أن تكون بحجم الناتج المحلي!!!
ربما تكون هناك أسباب عديدة أنتجت هذه المعادلة الغريبة، دعونا نتوقف في الفقرة التالية مع سبب واحد من تلك الأسباب.
(6)
أنعم الله على هذه البلاد بأن جعلها بلاد مسلمة بنسبة 100%، وربما مالكية بنسبة 100%. الحكومة مثلها مثل الشعب تصلي وتصوم وتؤدي الفرائض الخمس. هذه الحكومة المسلمة هي التي جعلتنا نحتل في العام 2016 الرتبة 142 في مؤشر منظمة الشفافية العالمية. أتدرون ماذا تعني هذه الرتبة المنخفضة في مؤشر مكافحة الفساد، إنها تعني بأن حكومتنا المسلمة التي تصلي وتصوم وتؤدي الفرائض الخمس كانت هي الحكومة الأكثر سرقة من بين كل حكومات العالم، وبما في ذلك الحكومات المسلمة والمسيحية والبوذية والمشركة والملحدة التي لا دين لها.
في هذه الجزئية لا يختلف شعبنا المسلم عن حكومتنا المسلمة، فالموريتاني المسلم الذي قد تجده يصلي في المساجد، ويصوم، ويحج، هو نفسه ذلك الشخص الذي قد تجده يسرق، ويغش، ويخادع، ويزور الأدوية والغذاء، ولا يتورع عن قتل الناس من أجل الحصول على مال حرام.
هناك لغز كثيرا ما حيرني، سأتركه لكم لكي تفكوا طلاسمه: لماذا الشعب الموريتاني هو الشعب الأكثر أداءً للصلاة والصوم والحج والزكاة من بين كل الشعوب المسلمة، وذلك في الوقت الذي هو فيه من أكثر تلك الشعوب غشا وسرقة وخداعا ونهبا للمال العام؟
ليس هذا هو اللغز الوحيد، فهناك ألغاز أخرى، سنتوقف مع واحد منها في الفقرة التالية.
(7)
إن الموريتاني "العاقل" والذي كنتُ قد دعوته إلى أن لا يقرأ هذا المقال يعد هو الشخص الأكثر فوضوية في العالم، ولتأكيد ذلك فيكفي أن يلقي الواحد منا نظرة على حركة السير عند أي ملتقى طرق في العاصمة، فسيجد فوضى عارمة، وزحمة خانقة يشارك فيها الجميع : أصحاب السيارات الفاخرة وأصحاب السيارات المتهالكة؛ المتعلمون والأميون؛ الأغنياء والفقراء؛ الكبار والصغار؛ الرجال والنساء..هذه الفوضى العارمة لا تغيب إلا عند ثلاثة ملتقيات طرق، وفي أوقات محددة، وفي هذه الأوقات يكون ثلاثة من "مجانين" هذه البلاد العظيمة قد قرروا أن يتطوعوا لتنظيم حركة السير التي يخلبطها في العادة عقلاء هذه البلاد.
"العقلاء" في موريتانيا هم الأكثر فوضوية، و"المجانين" هم الأكثر تنظيما. هذه الملاحظة الأخيرة جعلتني أتساءل هل نحن دولة مجنونة حكومة وشعبا، وهل العقلاء في هذه البلاد هم فقط أولئك الذين نصفهم بالجنون؟
حفظ الله موريتانيا..
محمد الأمين ولد الفاضل