تزخر الخزانات والمكتبات الموريتانية بكم معتبر من المخطوطات الشاملة لشتى صنوف المعرفة.
وتحظى هذه المخطوطات باهتمام عدد كبير من الدارسين والباحثين الوطنيين والأجانب نظرا لقيمتها العلمية والفنية.
ويدخل الحفاظ على هذا التراث الضخم في صميم الحفاظ على الهوية الوطنية العربية والإسلامية لموريتانيا البلد الصحراوي الواقع جسرا بين المغرب العربي وافريقيا السوداء.
وقد أنتجت المدارس التقليدية الموريتانية المعروفة بـ «المحاظر»، تراثا علميا عربيا وإسلاميا ضخما، وبذل علماء موريتانيا الذين رحلوا للشرق، جهودا كبيرة لاستنساخ الكتب في عصر ما قبل الطباعة وتولوا نقلها إلى موريتانيا.
جلب الكتب
وجهز علماء كثيرون قوافل الجمال محملة بالكتب المخطوطة إلى موريتانيا على مدى قرون، وأفنى العديدون منهم الأعمار في نسخ المصنفات، وبذلوا الغالي والنفيس في شرائها لمد مدارسهم التقليدية بما تحتاجه من مراجع.
وتم استيراد أغلب هذه المخطوطات من المغرب والجزائر وتونس والأندلس ومصر وإيران وغيرها من البلاد الإسلامية.
واهتم العلماء الشناقطة بالحفاظ على المخطوطات من عوادي الزمن، حيث أن الطبيعة الصحراوية الموريتانية والحياة البدوية للموريتانيين القائمة على التنقل لانتجاع المراعي، كل ذلك يعرض المخطوطات للتلف والضياع.
آلاف المخطوطات
ويقدر خبراء المكتبات في وزارة الثقافة الموريتانية عدد المخطوطات التي تمت فهرسة عناوينها بأكثر من أربعين ألف مخطوط بينها عشرة آلاف لمؤلفين موريتانيين.
وتوجد هذه المخطوطات مبعثرة بين الخزائن والمكتبات الشخصية الموزعة بين مختلف المناطق الموريتانية.
وقد تعرض جزء كبير منها لعوامل التلف بسبب رداءة الحفظ وضعف طرق الصيانة.
الاهتمام الرسمي
بدأ الاهتمام الرسمي بالمخطوطات الموريتانية مستهل سبعينيات القرن الماضي، حسبما أكده باحثون مهتمون، حيث قامت وزارة الثقافة الموريتانية بمجهود كبير لجمع المخطوطات الوطنية وحفظها وصيانتها، وقدرت عددها بأكثر من 40.000 مخطوط تشمل مجالات علوم القرآن والحديث والتاريخ والفقه والسيرة والأدب وعلوم اللغة وغيرها.
وشملت هذه العملية جرد المخطوطات ووضع خريطة لتوزيعها الجغرافي، ومعرفة وتشخيص وضعيتها، والتعريف بها.
وفي هذا السياق نظم في نواكشوط أول ملتقى دولي سنة 1977 بالتعاون مع المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم لدراسة وتشخيص واقع المخطوطات العربية في غرب افريقيا.
بعثات وباحثون
وضمن جهود الاهتمام بالمخطوطات، أسست الحكومة المعهد الموريتاني للبحث العلمي، فوضع برنامجا طموحا لحفظ المخطوطات وصيانتها، وأرسل عدة بعثات إلى مناطق البلاد المترامية الأطراف لإحصاء خزائن المخطوطات وجرد أسماء ملاكها، وقد استطاع فنيو المعهد جمع 6600 مخطوط بطرق عدة بينها الشراء، والإهداء، والوديعة أو الإعارة، كما قاموا أيضا بتصوير 3000 مخطوط ومجموعة كبيرة من الوثائق والعقود والرسائل التاريخية.
وقام المعهد العالي للدراسات والبحوث الإسلامية منذ إنشائه سنة 1979 هو الآخر، بجمع وفهرسة أكثر من 2000 مخطوط تم تحقيق بعضها من قبل طلاب المعهد ضمن بحوث ورسائل التخرج.
مصادر ووسائل
وعن مصادر المخطوطات يقول الباحث الموريتاني محمدن ولد أنه «إن الشناقطة اهتموا قديما بالعلم وحرصوا على اقتناء المخطوطات وشرائها بأغلى الأثمان، وجمعوا منها الكثير بشتى الطرق، وقد ازدهرت لذلك سوق المخطوطات في هذه البلاد حتى بيع كتاب القاموس المحيط للفيروز أبادي بعشرين بعيرا، وبيع كتاب شرح الحطاب على مختصر خليل بفرس». وقد تعددت المصادر والوسائل التي جمع بها الموريتانيون القدماء هذا الكم الضخم من المخطوطات، وتعتبر رحلات الحج البوابة الأساسية التي جمعت منها المخطوطات حيث دأب حجاج موريتانيا على اقتناء وجلب الكتب خلال وجودهم في أرض الحرمين وفي طريق عودتهم من المشرق والمغرب.
علماء مهتمون
ومن أبرز علماء موريتانيا الذين اهتموا باقتناء الكتب المخطوطة، الفقيه سيدي محمد بن حبت الذي جلب الكثير من المخطوطات بلغ عدد الموجود منها في مكتبته في مدينة شنقيط التاريخية أكثر من 1400 مخطوط، وكذا الشيخ سيدي المختار الكنتي (ت 1226هـ) الذي كان يتلقى قوافل الكتب من فاس والقيروان ومصر، وسيدي عبد الله ولد الحاج إبراهيم العلوي (ت 1233هـ) الذي عاد من رحلته إلى الحج بأحمال من الكتب تقدر بـ 1025 سفرا، والشيخ سيديا الكبير (ت 1284هـ) الذي جمع في رحلاته الطويلة أكثر من 6000 مخطوط، وحفيده هارون ولد بابا (ت 1398هـ) الذي زار عدة بلدان وعاد بكثير من المخطوطات والوثائق النادرة.
وأكد جرد قام به الباحثان الموريتاني المختار ولد حامدن (ت 1414هـ) والسويدي آدم هيموفسكي، وجود 2054 مخطوط لقرابة 394 مؤلفا موريتانيا، وذلك من أصل تسعة آلاف مخطوط لمؤلفين موريتانيين.
ويعتبر كتاب «الإشارة في تدبير الإمارة» لمؤلفه محمد بن أبي بكر المرادي الحضرمي (المتوفى سنة 489هـ) أقدم مؤلف موريتاني مخطوط.
ومن المجمع عليه أن العالم الموريتاني الشيخ محمد المامي (1282هـ) خلف آثارا علمية تقدر بأربعمئة مخطوط، وألف الفقيه محمد يحيى الولاتي (1330هـ) في حياته 114 كتابا.
شغف بالمخطوط
ويقول الباحث محمدن ولد أنه «إن الموريتانيين اشتهروا بشغفهم بالمخطوطات، إذ لا تخلو خيمة أو دار من مخطوط، ولهذا يعتقد بعض الباحثين والمهتمين بالمخطوطات أنه يصعب تقدير العدد الفعلي لهذه المخطوطات، فإذا اعتبرنا أنها تشمل كل ما هو مخطوط من وثائق وعقود ورسائل وفتاوى فقهية، فسيكون عدد المخطوطات بالملايين، أما إذا اختصرنا على الكتب، فإن عددها يقدر بأكثر من 40.000 مخطوط موزعة بين 700 خزانة عمومية وخصوصية في مختلف القرى والمدن والأرياف الموريتانية».
وتوجد هذه المخطوطات في مكتبات أهلية وأخرى حكومية أبرزها المعهد الموريتاني للبحث العلمي في نواكشوط، والمعهد العالي للدراسات والبحوث الإسلامية في نواكشوط، ومكتبات مدن ولاتة وتيشيت وشنقيط ووادان وتجكجة والنعمة ومكتبة أهل الشيخ سيديا بأبي تلميت.
فهرسة وجمع
وتعود البدايات الأولى لجمع المخطوطات الموريتانية للنصف الأول من القرن العشرين، حيث نشر المستشرق الفرنسي لويس ماسونيون في العدد الثامن من مجلة «العالم الإسلامي» الصادرة باللغة الفرنسية سنة 1909 مقالا من عشر صفحات تحت عنوان «مكتبة صحراوية» عرض فيه لقائمة من المخطوطات الموريتانية، كما نشر بول مارتي في كتابه «الإسلام في بلاد البيظان» الصادر في باريس 1916 قائمة لمكتبة العالم الموريتاني الشيخ أحمد بن سليمان.
وفي السياق ذاته نشر المختار ولد حامدن وألبير لاريش سنة 1950 مقالا بالفرنسية في نشرة المعهد الوطني لافريقيا السوداء بعنوان «المكتبات في بلاد شنقيط». وقام المختار ولد حامدن والباحث السويدي آدم هيموفيسكي سنة 1965 بجهد لإحصاء المخطوطات الموريتانية، تمخض عن فهرسة 2054 مخطوطا لحوالي 394 مؤلفا موريتانيا، وقد نشر الباحث الموريتاني الخليل النحوي هذه الجرد ملحقا في كتابه «بلاد شنقيط المنارة والرباط».
تصنيف وتنظيم
وفي سنة 1988 صدر في بيروت «فهرس المخطوطات العربية في موريتانيا» من إعداد الاستاذ أحمدو ولد عبد القادر والباحث الألماني ألريش روبيشتوك؛ وفي السنة نفسها أيضا قام الأستاذ الأمريكي شارل استيوارت من جامعة إلينوي بفهرسة مكتبة أهل الشيخ سيديا ببوتلميت، كما أنجزت مكتبة الفرقان الإسلامية في لندن سنة 2003 مع شركاء وطنيين فهرسا لمخطوطات مدينتي ولاتة والنعمة.
وضمن الجهود ذاتها، قام المعهد الموريتاني للبحث العلمي بإحصاء أسماء ملاك المخطوطات وأماكن وجودهم، كما قام فنيوه بزيارات ميدانية لخزائن المخطوطات لمعرفة وضعيتها وظروف حفظها وإعداد برامج متكاملة لحفظها وصيانتها.
ولتسهيل مهمة الباحثين والمهتمين وتمكينهم من الاطلاع على محتوى خزانة المخطوطات بالمعهد تم القيام بجهود متواضعة في مجال الفهرسة، فتم إعداد فهرس مخطوطات، نشر الجزء الأول منه سنة 1996، وهو يضم 455 مخطوطا. كما تم إصدار عدة فهارس لمخطوطات المدن القديمة المصنفة في التراث الإنساني بينها فهرس مخطوطات شنقيط، وفهرس مخطوطات وادان، وفهرس مخطوطات تيشيت، وفهرس مخطوطات ولاتة.
وحظيت مكتبة بابه بن الشيخ سيديا الأبييري الموجودة في مدينة بوتلميت وسط موريتانيا، باهتمام المستشرق الفرنسي لويس ماسينيون الذي أحصى جميع عناوين المكتبة المخطوط منها والمطبوع.
وتبلغ مخطوطات هذه المكتبة، حسب تحريات الويس ماسينيون، 512 مخطوط تشمل مختلف مواضيع الثقافة العربية الإسلامية.
مهتمون آخرون
وحظيت مكتبة الشيخ سيدي محمد بن الشيخ أحمد بن سليمان الديماني باهتمام الإداري الفرنسي بول مارتي الذي أفرد لها عدة صفحات في كتابه «الإسلام في بلاد البيضان» الصادر بباريس سنة 1916.
وعرض بول مارتي قائمة بالمخطوطات التي تحويها هذه المكتبة والتي بلغ عددها 240 كتابا.
وفي سنة 1950 نشر المختار بن حامدن وآلْبَيْرْ لَرِيشْ مقالا باللغة الفرنسية في مجلة المعهد الوطني لافريقيا السوداء والمقال بعنوان «حب اطلاع ومكتبات شنقيطية.
وتضمن هذا المقال معلومات موجزة ومفيدة حول أنماط المخطوطات بشنقيط، ونشر مع المقال جرد بيبلوغرافي أعده المؤرخ الموريتاني المختار ولد حامدن للمخطوطات الشنقيطية مركزا فيه على الجهة المالكة للمخطوط وعدد المخطوطات التي بحوزة هذه الجهة أو تلك وملاحظات عامة.
مكتبة وطنية
وفي سنة 1966، وبعد إنشاء المكتبة الوطنية في نواكشوط، قام المؤرخ المختار ابن حامدن أيضا ومعه خبير من اليونسكو يدعى آدام هيموفسكي، معار من المكتبة الملكية السويدية باستوكهولم، بوضع جرد للمخطوطات الموريتانية بعنوان «الفهرس المؤقت للمخطوطات المحفوظة في موريتانيا». واشتمل الفهرس على 2054 تأليفا مخطوطا لحوالي 394 مؤلِّفا موريتانيا، وكان أقدم مخطوط موريتاني مذكور بهذا الفهرس للعالم عبد الله بن سيدي أحمد بن محمد الغيث المحجوبي الولاتي المتوفى سنة 973هـ/1530م، بينما كان آخر مخطوط مذكور بهذا الفهرس هو للعالم محمد يحيى بن سليمة اليونسي النعماوي، وكان مؤرخا بليلة الاثنين 22 ذي الحجة سنة 1354هـ، الموافق 6 اذار/مارس 1936م.
مرحلة الميكروفلم
أما فهارس المخطوطات الموريتانية المنظمة فقد بدأت سنة 1981 مع مشروع للميكروفيلم الخاص تصوير المخطوطات على شكل أفلام، حيث قام المعهد الموريتاني للبحث العلمي بالتعاون مع جامعة تُوبِنْغَنْ بألمانيا بتحضير مكتبة للميكروفيلم عبر إعداد فهرس لبعض المخطوطات الموريتانية التي تم تصويرها وتحميضها.
وفي سنتي 1987 و1988 قام الأستاذ الأمريكي شارل استيوارت من جامعة إلينوا الأمريكية بفهرسة مكتبة أهل الشيخ سيديَ الموجودة ببوتليمت، مكملا ما أنجزه الأستاذ لويس ماسينيون عنها في بداية هذا القرن.
شبكة مكتبات
وفي سنة 1995 قام أستاذ التاريخ بجامعة نواكشوط الدكتور محمد بن مولود وبمؤازرة اللجنة الجامعية للتضامن مع موريتانيا وهي منبثقة عن جامعة باريس إكس، وبمؤازرة جريدة لوموند كذلك، بإنشاء شبكة المكتبات التقليدية في منطقة تكانت شمال شرق موريتانيا.
وتسعى هذه الشبكة، التي لم يتجاوز نشاطها حتى الآن مدينة تجكجه، إلى تنظيم وإحصاء المكتبات بمنطقة تكانت.
وسعيا إلى ترغيب أصحاب المكتبات الخصوصية في الانضمام إلى هذه الشبكة عَمَدَ المشرفون عليها إلى تشجيع أصحاب المكتبات بمساعدات مادية وعينية، حيث انضمت 15 مكتبة إلى الشبكة كما قامت بإحصاء قائمة لـ 3000 عنوان مخطوط.
وقد توقف نشاط الشبكة منذ سنة 1997 نظرا لتوقف المساعدات المالية التي كانت جريدة لوموند تقدمها للمشاركين. وتم سنة 2002 في إطار مشروع صيانة وتثمين التراث الثقافي الموريتاني الذي يموله البنك الدولي، جرد ثلاثة وثلاثين وسبعمائة وستة وسبعين مخطوطا موزعة على ست مائة وخمس وسبعين مكتبة منتشرة في 289 موقعا في 91 بلدية موريتانية من ضمن 48 مقاطعة.
جهود دون المطلوب
إن الجهود التي تم القيام بها لحد الساعة والتي مكنت من إقامة خزانة تضم أكثر من ستة آلاف مخطوط في المعهد الموريتاني للبحث العلمي، وأكثر من 2000 مخطوط في المعهد العالي للدراسات والبحوث الإسلامية ونسخ وتصوير عدة آلاف أخرى، تبقى جهودا متواضعة في ضوء وجود إحصاءات تشير إلى أن لدى موريتانيا أكثر من أربعين ألف مخطوط موزعة على خزائن خاصة ومكتبات للمخطوطات بالصحراء، محفوظة في ظروف قاسية، حيث تتعرض للحرارة والغبار، مما يعرضها للتلف والضياع.
وعلى الرغم من الجهد الكبير الذي بذلته المصالح الحكومية المختصة والمساعدة الفنية الخارجية من خلال التعرف على أماكن وجود المخطوطات الوطنية، فثمة نواقص كثيرة ملاحظة، بينها قلة الوسائل والإمكانيات المادية المخصصة لجمع وصيانة المخطوطات، ومنها نقص الكادر البشري المتخصص، وغياب خطة لرقمنة المخطوطات وإتاحتها عبر النشر على شبكة الانترنت لأكبر عدد من المستفيدين، ومن هذه النواقص كذلك انعدام برامج للتحقيق والنشر.
ولا شك أن مزيدا من البحث في هذا المجال سيسلط الضوء على جوانب مهمة من واقع المخطوط الموريتاني، مما يستوجب التنبيه إلى ضرورة القيام بعمل جبار من أجل إنقاذ هذا الموروث الثقافي المهم.
عبد الله مولود/ نواكشوط ـ «القدس العربي»