مما لا شك فيه أن التعديلات الدستورية محل الجدل القائم وربما موضعا للخوف أيضا عند البعض والمزمعة من طرف "الأغلبية" الحاكمة أو لنقل على وجه التحديد من طرف رئيس الجمهورية ، والتي أبدى فيها البرلمان رأيه وبغرفتيه، نوابا وشيوخا ، وكل بطريقته، كانت اجتهادا من طرف واحد وفي غير محله ، يستهدف فيما يستهدفه النصوص والشعارات الأهم، تلك الرموز الأساسية للدولة القائمة ، كالنشيد والألوان والعلم، علما أن حفظ الموجود أولى من طلب المفقود، الأمر الذي شكل ومنذ الإعلان عنه هما كبيرا للشارع الموريتاني ، الذي ازداد تمسكا ومنذئذ بأهمية الحفاظ على ما يجمع ، رغم المعوقات والمحيط ، وكأنه يصحو من سبات عميق. بقدر ما شكلت التعديلات كابوسا حقيقيا للطيف السياسي برمته من خارج الأوساط الحاكمة ، وما زالت، في وقت أصبحت فيه هاجسا مؤرقا للكثيرين من أصحاب الرأي المستقلين ومهتمين، كتابا ومدونين ، ممن انتابهم القلق، وهو القلق المبرر ـ على أية حال من وجهة نظري ـ على وحدة هذا البلد واستقراره، وعلى مستقبله، متمثلة فيما جسدته وتجسده تلك الرموز المشتركة المسلمات ، بعدما أصبحت جزءا لا يتجزأ من ذاكرة المواطنة والانتماء، ومكونا من مكونات الوعي العام، ومنذ عقود الاستقلال الأولى في ستينات القرن الماضي . ولما قد يجره ويثيره التصرف فيها من مساس محتمل وإساءة لوحدة البلاد وتماسكها الهش، وربما بقائها .
علما بأننا بلد يرزح ولطالما كان كذلك ــ باستثناء فترة الدولة المدنية الأولى مع المختار ولد داداه الذي نجح إلى حد ما في لجم ذلك ــ تحت نفوذ القبيلة والعشيرة والبطون، الضارب في القدم والجهة ، فضلا عن الحساسيات الفئوية والحسابات العرقية الأضيق، ضف إلى هذا وذاك تراكم ثقافة الفوضى والسيبة، التي عمرها من عمر اختفاء الدولة المركزية الأولى في صحراء الملثمين ، دولة المرابطين 511 هـ واستمر ذلك قبل أن يتم باكورة القرن العشرين الميلادي 1320 هـ تأسيس مستعمرة "موريتانيا" بإرادة الغير، على أرضية كانت تقاسمتها الحلل والمشيخات والإمارات المتناحرة ، ولم يقم المحتل بما قام به لسواد أعيننا ، وإنما خدمة لمصالح اقتضتها ضرورات الإستراتجية الاستعمارية الفرنسية في ذلك الوقت.
وفيما أسلفناه، مما صار محل خوف لهذا وذاك، ممن لا يرضون عن التعديلات المزمعة، وجدوا طوقا النجاة فيما يبدو، في تصويت مجلس الشيوخ بقول "لا" كبيرة للدوس على معالم الدولة وعلم الاستقلال، في موقف غير متوقع وغير مسبوق، من تلك المؤسسة الرصينة ، وإن كان موقفا تلقاه الكثيرون بالارتياح والقبول، إذ أتى في الوقت الناسب، ليوقف عجلات "البلدوزور" ولد ابيليل وعواصف مجلسه على الأقل حتى الآن، ومنذئذ وأعضاء المجلس عرضة لتكالب شبه هستري محموم وغير مسؤول، من تخوين وتجريح وتجريم وغمز ولمز، من أكثر من جهة ، فيما لا يقول به عرف أو قانون، هذا إن كنا ما زلنا نتحدث عن دولة قانون، وكل ذلك صدر من كتبة محسوبين على النظام وأجهزته وإكرامياته، في عملية شيطنة مستمرة diabolisation وإذا كان شيوخ المجلس بموقفهم الرافض، وهو الموقف الواجب في هذه الحالة والمشرف برأينا، بالطبع ليسوا ملائكة ،وهم أصلا لا يدعون ذلك، فإن مهاجميهم تزلفا فيما يمكن أن نطلق عليه عملية افتراس "إعلامي" linchage mediatique قطعا ليسوا فوق الشبهات ولا هم فوق التهم، الذين ذهب بهم "الحماس" الأعمى إلى درجة أن بعضهم من منظري التملق في عهود الإنحطاط لما بعد الدولة المدنية، ذهب إلى حد الوقوع في الصحب الكرام رضوان الله عليهم، وطعنا في عقائد المؤمنين، عند ما وقع بمداده الآسن والملوث في سيدتنا هند وسيدنا أبي سفيان " ومن الحب ما قتل " تجاوزا لكل الحدود، مصنفا رافضي مشروع ولد عبد العزيز "سيد اللحظة الراهنة" بمشركي مكة في غزوة أحد، إسقاطا منه في غير كنهه، لتاريخ سير كريمة نفخر بها، لم يتخلق بها المعني في ما نعلمه. ونعوذ بالله من فتنة الدنيا والدين. "شيعة" عجيبة غريبة من تكفير إلى تخوين وهلم جر... تارة تهديد بقطع الرؤوس وطورا ببقر البطون.. مرة بسيف الحجاج وحينا بسيوف ابن ابي عبيد... وكأننا نساق في طريقنا إلى دولة الميليشيات على غرار تلك الإيرانية على تخوم تكريت بالعراق، أو الأخرى الأطلسية على أبواب سرت.
وقبل أن أشد مودعا على يد كل واحد من أولئك الشيوخ أولي المهابة والفضل والدين الحق، الذين باتوا في وجه من الوجوه، وبصرف النظر عن الدوافع والدواعي، في موقفهم اليتيم في وجه الإعصار، المالك الوحيد لبراءة المشروعية الوطنية، من باب الخروج على المألوف، في لحظة تاريخية حاسمة، دفاعا عن مبدأ وربما وطن، ومهما كانت الحجج فيما يساق ويدعى، وعسى أن ندرج موقف مجلس الشيوخ الموريتاني الأخير في وجه التعدي على الدستور، و"تحكم" الجنرال وشركاؤه وسطوة ما أصبحوا يمتلكون من نفوذ ومال، في سياق موقف القضاة الشجاع بالولايات المتحدة الأمريكية ضد اترامب وعبثه بالدستور الأمريكي وفي تعاطيه الفج مع المسلمين عبر العالم مع الفارق، وإنصافا لترامب، فالرجل كان مليارديرا أمريكيا معروفا، قبل أن يكون رئيسا، ولم يصل إلى البيت الأبيض الأمريكي على ظهر دبابة، ولذا وجب التنويه.
محمد ولد أماه