يبدو لي أن عدداً غير قليل ممن أعرف من العرب المعاصرين: اللامنتمين سياسياً أو حزبياً أو «أي شيئياً» قد بدأوا «يمارسون» أسلوب العجائز في تذكر أيام الصبا والشباب، «الأحسن» والأكثر أمناً مما نحن فيه، في هذا الزمن المتشدّق بالديمقراطية وحرية الرأي، وأخواتها!
ينكر عليّ بعض من أحترم آراءهم هذا التشاؤم ـ التشاؤل من تضاؤل الإبداع في الساحة الأدبية العربية المعاصرة، تضاؤلا بدأ ينحدر نحو الإدقاع منذ «تباشير» الربيع العربي، الذي سرعان ما انقلب صقيعاً عربياً. هذا أول الأسباب التي «تحرّض» على تذكُّر الماضي القريب، قبل البعيد، تأساءً وتعزية. أين الأسماء الكبيرة في الرواية العربية؟ من جاء، بعد نجيب محفوظ وعبد الرحمن منيف وجبرا، في روايات لا تقوى على تركها إلى جانبك بعد قراءة الصفحة الأولى؟ كيف حال الشعر بعد فترة الخمسينات الذهبية في الشعر العربي، في العراق وعدد من الأقطار العربية؟ من ظهر في أي بلد عربي شاعراً يقترب من إبداع الجواهري، لغة وجزالة هي وريثة المتنبّي؟ والشعر في فلسطين، على الرغم من وقوع البلاد في أتون احتلال دونه «أبارتهايد» جنوب أفريقي؟ أين من يسير على طريق الآلام حاملا صليبه «المعاصر» مثل محمود درويش وسميح القاسم؟ ومنارة الشعر العربي الحديث، «الشاعر لجميع الفصول» نزار قباني. هل نذكره ونتذكّر شعره «في كل مناسبة» كما يفعل «مُدمِن» على الشعر مثلي؟
بداية الربيع، إذا ما بدأ حيث أقيم في كمبرج، تذكِّرنا بميلاد نزار في الحادي والعشرين من آذار/مارس 1923. وكان نزار يذكِّرنا دائما أنه ولد مع ميلاد الربيع، وله الحق في ذلك. ويبدو أن آذار العشرينات من القرن الماضي كان يبشر بميلاد جديد للشعر العربي. ففي ذلك العقد ولد للشعر نازك، 1923 كذلك، وفي عام 1926 ولد كل من شعراء الحداثة في العراق: بدر، البياتي، وبلند الحيدري. جميع هؤلاء الشعراء كانوا بشائر ربيع عربي شعري، ما لبث أن انحدر نحو شتاء فقير بعد غيابهم في أواخر تسعينات القرن الماضي. ومن دماء تموز الشعر القتيل أينعت شقائق النعمان الفلسطينية: محمود وسميح.
هل يسمح لنا «التشاؤل» فتح كوة صغيرة نُطِلُّ منها على ربيع شعري ولد مع ولادة نزار؟! منذ مجموعاته الأولى: «طفولة نهد» و«قالت لي السمراء» شهد الشعر العربي ولادة لغة جديدة، بسيطة في عباراتها، تتناول حياة الناس العاديين، من غير أصحاب الفخامة والألقاب الرنانة، وتتحدث عن المسكوت عنه في مطاوي النفس البشرية التي كانت، حتى ربيع نزار، من المحرَّمات في «ثقافة» جيل تحجَّر في ظلمة العهود العثمانية الطويلة، حيث صار للشعر لغتان: مسموحة وغير مسموحة. لكن نزار يخبرنا أن الشعر لغة القلب التي تدخل إلى القلب دون استئذان:
قلبي كمنفضة الرمادِ أنا إن تنبُشي ما فيه تحترقي
قلبي أنا شِعري ويظلمني من لا يرى قلبي على الورق
وقيل: هذا شاعر المرأة، وشاعر الحب وغير ذلك من تُهَم لا يتبرأ منها. والرجل في شعر نزار مكشوفةٌ حقيقتُه بما لم يجرؤ أحد قبل نزار أن يكشف. قصيدة «حُبلى» أبلغ إدانةٍ لرجل المجتمع «المتحضِّر» المتخفّي وراء ذكورية المجتمع وأبويَّة لا تقبل بكشف المستور. «لا تمتقع هي كلمة عَجلى/إني لا أشعرُ أنني حُبلى/وصرخت كالملسوع بي: كلا/سنمزِّق الطفلا/.. وكان أن ثارت «إنسانية» المرأة في ذلك المجتمع الذكوري الأبوي، فقذفت بوجه «رجل العصر» ما أعطاها ثمناً لجريمته: «ليراتك الخمسون»، أنا لا أريدُ له أباً نذلا.
ولأن نزار شاعر لجميع الفصول كان اهتمامه بالمجتمع العربي وبالشؤون السياسية حاضراً بمناسبة وبغير مناسبة… إن شئت. قصيدة «خبز وحشيش وقمر» إدانة شديدة للمجتمع العربي، دفعت بالقائمين على «سلامة» هذا المجتمع العربي، «الإسلامي» في الغالب، إلى تجريم شاعر لا يخشى في الحق لومة لائم. وكان زلزالُ حزيران 1967 قصيدةً قالت ما لا يُقال حتى ذلك اليوم الكارثي، على جميع المستويات: «هوامش على دفتر النكسة». يرى كثيرون أن هذه القصيدة أكبر من «هوامش» لأنها معلّقة يجب أن تُكتب بماء الذهب وتُعلّق في كل دار عربية، لتكون «الصَّبوح» و«الغَبوق» لكل عربي لم يُعاقر الراح ولا يعرف أدب الشراب،إذا المُدامة عربدت في كأسها. مَن مِن الشعراء العرب قال بلغة كارثية البساطة: «كلَّفنا ارتجالنا/خمسين ألف خيمة جديدة»! فهو يبدأ هكذا: «أنعي لكم يا أصدقائي اللغة القديمة/والكتب القديمة/أنعي لكم، أنعي لكم/نهاية الفِكر الذي قاد إلى الهزيمة». لغة الشعر القديمة، والكتب القديمة، قد ماتت جميعاً، لأن ما أنتجته من فكر هو الذي قاد إلى الهزيمة، التي تسميها اللغة القديمة التي ماتت: النكسة! والفكر الذي قاد إلى الهزيمة هو الفكر الذي تخدَّر بالاستماع إلى «وأول أ آبلك فين/وابدأ كلامي منين» تتكرر مئين المرات لتصل إلى «ولما أشوفك يروح مني الكلام وانساه». إذن لماذا أرادت أن تقابله أساساً؟ مرة حضرتُ مجلساً ضم بعض كبار «المسؤولين» فيه ضابط كبير أقسم أن «الجماعة» ليلة الخامس من حزيران كانوا يستمعون إلى رائعة «سومَه» ما بين رنين الكاس/ورنّة الألحان. حسبتُ الرجل ناقماً أو شامتاً فكان يبالغ في أسلوب «جَلد الذات» إلى أن اكتحلت العينان بطلعة «مسؤول كبير جداً» على التلفزيون، بعد «النكسة» بأيام فصرّح لافُظَّ فوه، ولله أبوه: «دَحنا كنا مستَنّيهم من الشرق، أطا بيهم جونا مل غرب». ما شاء الله يا سيادة أركان حرب… قل لي «بالزمّة» كيف حصلت على الشريط الأحمر على الكتفين، وهذه الأغطية لقناني الكولا التي تملأ صدرك؟ ألم تدرس تاريخ الحروب؟ ألم تسمع أن الحرب خدعة؟ ألم تدرس لماذا خسر المسلمون في موقعة أحُد في أول الدعوة الإسلامية، يوم نزل المسلمون من موقعهم المرتفع على جبل أحُد إلى أرض المعركة التي هُزمت فيها قريش، نزلوا خلافاً لأوامر الرسول الكريم قائد المعركة، ليجمعوا الغنائم والأسلاب، فاستدار خالد بن الوليد «اللي مش اركان حرب» والتف حول الجبل، وفاجأ جامعي أسلحة الهاربين، وصار اللي صار.
ونستأذن من الهم والغم، ونقلب صفحة على ذكريات جميلة عن نزار وشعره. في أحد مؤتمرات المربد الشعرية ببغداد كان نزار يجلس في الصف الأول أمامي، وكنتُ أنا جالساً خلفه تماماً. صعدت «سعاد الصباح» إلى المسرح لألقاء قصيدتها، ووجدتُ لغتَها وإلقاءها صورة من شعر نزار وإلقائه، أو هكذا بدا لي. فلم استطع كبتَ ملاحظتي بصوت مسموع: «هذا شعر نزار بصوت نسائي» فالتفت اليّ نزار بابتسامة عتاب قائلا: «وبعدين مَعَك»! فالتزمتُ الصمت بعدها. وفي أواخر سبعينات القرن الماضي، أيام «الحويدس» في لبنان، جاءنا نزار وبلقيس وولديهما: عُمر وزينب إلى بغداد، وأقاموا في دار أهل بلقيس، الذي يبعد عن دارنا في حي الجامعة، أيام الخير، بخمس دقائق. دعوتُ نزار إلى دارنا، فلما دخلت وهو إلى جانبي صار يتلفَّت إلى حديقتنا مراراً. ولما نزل من السيارة وقف ويده على باب السيارة المفتوح ودهشة باسمة على وجهه سائلاً: شو هالعطر اللزيز بحديقتكم؟ قلتُ هذا «الرازقي» زهرة فُل مطعَّمة على ياسمين. قال وكيف نحصل على شجرة منها لحديقة بلقيس؟ قلتُ: تكرم عينك: غداً اجلب لكم شتلة منها. وهكذا فعلتُ. ومن يومها صار الرازقي حاضراً في شعر نزار حضور الياسمين.
وفي «أيام الخير» اللاحقة، يوم كانت هناكَ دمشق تُزار، ومؤتمرات شعرية نُدعى اليها، كان أول عمل أقوم به حال وصولي فندق الشام أن «آخذ تكسي» إلى مقبرة «باب صغير» لزيارة قبر نزار الذي وافاه الأجل في مستشفى بلندن يوم 30 ـ 4 ـ 1998، لقراءة الفاتحة على روحه. كان دليلي حارس المقبرة يرافقه عسكري، ساعدني في أخذ صورة لي أمام «مثوى فقيد الشعر العربي: نزار قباني». تكررت هذه التجربة كلما دُعيت إلى مؤتمر في دمشق وكان الدليل يؤكد لي كل مرة انه يبدأ «دوريته كل صباح» بزيارة المثوى، وقراءة الفاتحة. هكذا كانت أخلاق العسكر في أيام قبل الصقيع العربي. لكن في هذه الأيام الكابوسية، لم تبقَ مؤتمرات أدبية في دمشق، ولا زيارات مثوى لقراءة الفاتحة، فالكل مشغول بأمور أخرى.
عبد الواحد لؤلؤة