لم يعد مستحيلا على المتابع لما يجري وبعد المؤتمر الصحفي، والتعديل المزمع على الدستور، تخمين كنه ما يدور في ذهن سيادة الرئيس، بل إن شئت "الملك"، وكما دعاه مؤخرا وعلنا أحد فرسان "الكتيبة المدنية" العتيدة الميامين، عضو مجلس النواب من على منبر المجلس، وفي دورة رسمية، ذلك رأيي المتواضع، تلك الصفة التي لم تتحلى بها فيما يبدو لهجة صاحب الفخامة في إطلالته الجديدة، بما ستتضمنه، وبما تخللها من وعيد مبطن، وتحوير للتاريخ واطراح للغير، إذ لم يختلف كثيرا الرئيس محمد عبد العزيز في ندوته الصحفية عما عودناه، ولم يأت الرجل بجديد ذي بال، اللهم إلا إذا كان التأكيد، هذا إذا كان الأمر يحتاج إلى بيان، على تشبثه الذي لا يلين والذي يقرأ من العنوان، ولم تعد ترقى إليه الشكوك، عبر ما ردده طيلة ساعات حديثه الطويل على مسامع الجميع، عن حكمه وعن نواياه وعن مشاريعه القادمة، بكرسي السلطة ودفة الحكم، وعلى رغم من رغم، ما دام فيه عرق يسطر !! وتلك شنشنة أعرفها من أخزم.
وسوف يتجلى مصداق ذلك في الموقف من المجلس المنتفض انتصارا لكبريائه المكلوم، والذي سيصير في عداد المتهمين "بالاختطاف" والخروج إذن على القانون، والموقف من المعترضين الكثر، والمعارضين على التصرف الفج في نصوص الدستور ورموز الدولة، وطريقة التداول السلمي على الحكم .. ويمكن أن نختصر الرسالة طي الخطاب المعلن عنه في فحوى الأبيات التي أنشدها متوعدا أحد حكام الدولة الإسلامية في الصدر الثاني، بعد تولي الخلافة الراشدة، ليحل محلها الملك العضود، في وجه من لا يرضون بالكسروية وسيلة ومنهجا للتعاطي مع أمور الأمة:
قد كنت حذرتك آل المصطلِق
وقلت يا عمرو أطعني وانطلِق
إنك إن كلفتني ما لم أطق
ساءك ما سرك مني من خلق
دونك ما أستسقيته فــاحس وذق !!
ولعل ديباجة الخطاب تغني هنا عما سواها، بإشاراتها الدالة الموحية التي لا تخطئها العين، ومن ذلك التنويه بما أسداه هو للجيش، الذي لم يكن بحسبه موجودا قبل توليه الحكم، والقول بذلك فيه ما فيه من المبالغة وربما المغالطة، عن جيش كان تأسيسه 1961 وحتى قبل انتساب المعني للمؤسسة التي يتحدث عنها، والتذكير الملفت فيما تلا بالموقع السالف له كضابط في القوات المسلحة، يقود فيلقا خاصا يأتمر بأمره.
ومن خلال ردوده على محاوريه الذين برباطة جأش ملحوظة، أثاروا كرجال إعلام أهم الأسئلة الملحة التي تستدعيها المناسبة أو تشغل الرأي العام المحلي، وإن عزف المضيف وناور كعادته في الإجابة على معظمها وأهمها، كالبطالة وغلاء المعيشة، وتدني المداخيل، وتغول واستشراء الفساد كالنار في الهشيم في سني حكمه، ونفوذ المحيط والمقربين، وقل نفس الشيء عن كيفية ترتيب أمور خروجه من السلطة إن كان، ثم عن الموقف من النازلة الدستورية، وقد رفع شيوخه مع سواهم بالغرفة البرلمانية العليا في وجهه "الكرت الأحمر" مما يعني في لغة المصطلح الرياضي المتعارف، الطرد والإبعاد، لمن خرجوا على قوانين اللعبة.
ومما لفت نظري في ردود صاحبنا على أحد محاوريه ما وصف به نفسه بأنه ليس مثل "ديكول" الرئيس الفرنسي الراحل والجنرال، صاحب التاريخ الحافل ببلاده، كما أنه لن يفعل في النهاية ما فعله "بينوشي" قائد الجيش، الذي أطاح بالحكم المدني في اتشيلي 1973، وللعلم فالأول، وترفعا وكبرياء منه، وصونا أيضا لماء الوجه، انسحب طوعا من السلطة وبهدوء، وقبل نهاية مأموريته الرئاسية الثانية بزهاء سنتين، عندما رفض الفرنسيون مشروع استفتاء على الدستور بقصد تعديله 1969، والثاني وإن كان ديكتاتورا فظا ومقيتا، سيترك مقعد الرئاسة وعلى مضض، في إطار تسوية سياسية، لتعود إليه قيادة الجيش، إلا أنه احتفظ بسمعة حاكم عسكري بعيد الهمة، بعيد عن شبهات الفساد المالي، نظيف اليد والذمة، بشهادة شريحة واسعة من دارسي تلك الحقبة من تاريخ أمريكا اللاتينية، ولعمري لقد صدق صاحبنا في هاتين وأصاب في الإقرار باختلافه عن الرجلين!!
ومن الغريب وليس بالمستغرب ما طفح به كأس "أحمد العزيز" كما صار يناجيه "دلعا" عكوفا وركعا، كهنة رواق السلطة أيا تكن، أنه وجد في الشيوخ "33" كما حدد الرقم الرافضين لمشروعه الجديد، قلة قليلة تهم باختطاف بلد بملايينه الأربع دون وجه حق، ولذلك سيقوم بما يجب "لتحرير" البلد الرهينة بحسبه. وفي الحقيقة فصاحبنا الإبن "الشرعي" لزمانه، زمان لم تعد فيه المصطلحات اللغوية تعني شيئا من دلالاتها الأصلية، من قبيل الإرهاب، خطف، تحرير إلى آخر القائمة، إذ صار لكل الأخذ بما يناسبه من مصطلحات دون تقيد بالضوابط ولا المعاني، حدثت تلك "الثورة" الاصطلاحية الخلاقة بمنطقتنا بل والعالم، منذ أن أصبح "بوش" الأول والثاني، ومجمع المخابرات الأمريكية والسركوزية يقدمون جوائز حسن السلوك للحكام.. وتعود إليهم المرجعية في الفتوى والمصطلح، والمشروع والممنوع، وعندما أصبح الغزو والاحتلال والإبادة "تحريرا" مباركا وعملا مشكورا .. والتصدي للعدوان وأحلافه "إرهابا" مستنكرا وجرما مشهودا، وإذن فليس كثيرا ولا بمستنكر على زعيمنا "الجريح" في آخر معاركه الخاسرة من حرج، إن احتاج إلى تطويع، وإن لم يكن بريئا بالطبع، لمصطلح يخدم ليلة من ليالي الظهور، أو الحبور المتكلف، تسويقا للمنهج الجديد، وما دام لم يسِم الثلاث والثلاثون شَجًا في حلق نظامه (والعدد من غير المتفق عليه) بميسم الإرهاب والخروج على ولي الأمر ورب النعم .. إذ الإرهاب هو الأصل، والاختطاف والاحتجاز فروع، واستصدار الفتاوي لن يعوزه، فلهم فقط أن يشكروا رب الأرباب.
ولكن دعونا نتوقف عند سؤال وجيه، ولعل ولي الأمر عنه يجيب في قابل الأيام، أو يحيله إلى أصحاب الاختصاص من جهابذة القصر، يا ترى أيهما أولى بتهمة الاختطاف الشنيعة وأخواتها؟ من صوتوا من أعضاء مجلس برلماني في دورة مقررة، وحسب الأصول التي تنظم ذلك، كما فعل الفريق المشاقق بمجلس الشيوخ الموريتاني، بمن فيهم المنتمون لحزب السلطة، وإن أحدثوا من الإرباك ما أحدثوه، أم من يذهب بشعبه اليوم إلى متاهات مظلمة، لا يرعوي، غير مستأنس برأي، شعب وأبناء أمة من الكرم والأريحية بمكان، يلزمه من حقهم ما يلزمه، وقد أعطته الأمة وخولته ما استحق وما لم يستحق، وليس من أقله ولا من أدناه، مأموريتين رئاسيتين، اكتنفهما ما اكتنفهما من غموض وخروج على النص.. ناهيك أن ولد عبد العزيز هو من كان المسؤول المباشر عن الإطاحة بنظامين شرعيين وعلى التوالي، كان هو أحد حراسهما، ولولا العناية الإلهية وجهود خيرة من أكثر من طرف، لاقت قبولا لحسن الحظ، وإحساس تاريخي بالمسؤولية طبع مسلك النخبة السياسية الوطنية في الجانب المقابل في ذلك الوقت، لكان حدث ما لا تحمد عقباه وما لا يمكن جبره، إذ أن الجنرال قائد الفيلق اتخذ وحقا من بلده رهينة، مشهرا السلاح، كان ذلك 2008 وفور الانقلاب على الرئيس المدني المنتخب، ولعل السر قتات.
محمد ولد أماه