من غير أدنى شك وذلك ما أكدته وتؤكده لنا العقود والتجربة، كان سقوط الدولة المدنية الأولى في موريتانيا بواسطة الانقلاب العسكري 10 يوليو 1978م ضربة في الصميم، وربما كان ضربة في مقتل، للبلد الحديث العهد بالدولة، كمعنى ومبنى، وكانتماء حتى، البلد الفسيفساء في تشكلته وتلاوينه أعراقا وجذورا ومشارب وربما ولاء (المغرب، الجزائر كل من جهته في الشمال، والسينغال جنوبا وعبر النهر، ومالي في الجنوب الشرقي) وليس من قبيل المبالغة القول أن الإطاحة بالنظام المدني كان إيذانا حقيقيا بوأد المشروع الوطني، الذي أريد له أن يكون جامعا ولا يجوز له أن تحتكره عائلة أو جهة أو قبيلة... البلد منذئذ صار في حكم المختطف، ومنذ أن اصبح في قبضة انقلابييه.. وفي الأثناء سيتقلص به ويضمر شيئا فيشيئا الحس السليم والإحساس بالمسؤولية، والتخلق الواجب في التعاطي في أمور الشأن العام، ان لم نقل الخلق بالمجمل، إذ ظهر الفساد وانتشر، وشاع وذاع، وعمت به البلوى، وظاهرته السلطة.
وعن إشكالية الولاء المزمنة جنوبا وشرقا وشمالا، ربما أجدني، وفي وجه من الوجوه، ومن باب الأمانة، فمن يجري عليهم ما ذكرناه من ازدواج الولاء الموروث، وإن كان بالنسبة لي مما لا يؤثر على موقف، أو يخل بمبدإ وسيبقى دوما في أطره الاجتماعية المعهودة. (على سبيل المثال والدنا باينشيري توفي وبالساقية الحمراء ولد، وفي واد الذهب كانت وفاة والده، جدنا عبد الودود، رحمهم الله) وأنا في ما يخصني فمولدي بين فرضيتين أو مكانين، العيون بالساقية الحمراء، وآزوكي بآدرار، وكل له ما يعضده، ولست بدعا في ما ذكرته في هذا المضمار، وخير من يعلم السيد رئيس الدولة المحترم!.
وعود على بدء فمن طريف ما يحكى وقد لا يخلوا من دلالة ذي مغزى فيما يعزى لأحد وجوه المشايخ بوطننا، معلقا على الإطاحة بالمرحوم المختار ولد داداه، في ذلك الوقت، في سبعينيات القرن الماضي، رجل الدولة ومحتضن وراعي المشروع المؤود، على يد زمر العسكر، واللفيف غير المقدس من نخب المآدب والقصور، وقططها السمان، حيث أخبروا الشيخ بالواقعة وحدث الانقلاب، ويذكر هنا أن الشيخ المعني كان أحد من زكوا الرئيس الأسبق، أيام الإعلان عن الاستقلال الداخلي 1957-1958 عن المستعمر الفرنسي، إذ وبعد هينهة وقد ألم بالخبر وحقيقة ما جرى : الأبطال، والمسرح والأدوار، قال لمحديثه ولم يأخذ منه الأمر طويل فكر، والعهدة على راويه، "هذه انحيرة" الدولة صارت ناقة جزورا .... إنهم أصحاب المُدى والسكاكين إياهم!!. وإذن فليأخذ كل بسكينه ليقتطع ما استطاع، وهو وما أصاب... فالأمور قد صارت بحسب القبضة وقوتها ونجاعة الضربة وحدة السكين، ومنذ الآن يكون النصيب ...".
ولم تخيب الأيام مع الأسف ظنون الأمير الصنهاجي الجليل، والمضحك وربما المبكي أيضا أن فراسة شيخنا وبصيرته الثاقبة في ما وصل إليه عن الانقلاب الأول في بلاده ليقول ما قال، قد شهدت بصحته الأيام، ونحن نقول بنفس ما وصل إليه الشيخ عن الانقلاب الأحدث، إلا أنه ربما بشراهة وشجع أعظم وأخص وأعم... فالسكين هي هي، والقبضة هي ذاتها، في وطن يموت ومواطن يذل ويهان في كل يوم بتفاوت الفرص وبالحرمان والإقطاعيات والنهب الفوضوي والمنظم ... فلقا وخراديل بين عائلة الحاكم، من يضحك في الحقيقة على عقول فقراء ومساكين بلاده وهو في الواقع رب السكاكين، وعوائل النفوذ المكتسب والموروث والمدفوع الثمن كذلك، وتسويغ وتسويق لفيف التلفيق الآثم، ولقد صدق لعمري الشيخ وبر.
وهكذا صدقت النبوءة أو التنبؤ، وهكذا صنعوا وكان ديدنهم،
إذا كنت عيابا للناس في خلة
فاحترس لنفسك ما أنت للناس قائله
وهكذا صنع ويصنع ولد عبد العزيز في دولته ... والدنيا دول، وإن ادعى العكس، ونفخ الزمرة والطبالون المحترفون وهرولوا من حوله ومن أمامه ومن خلفه، بمختلف ألوانهم وألسنتهم، ورقص القراد والقردة في مواسم الجوز والموز....
ولعل صاحبنا شحذ طويلا سكاكينه المحتبسة عملا بمضمون الوصية النبوءة وفي وقت مبكر وربما آلت إليه بعض خردة غيره من أسلافه، وهو الوريث غير الشرعي لسابقيه، ولعل الرجل لم يخفنا سرا في ظهوره الأخير في قوله: "أن العسكر لا يحكمون" ومن البديهي أن هناك من يشاطرونهم الكعكة من حول الفريسة المسكينة، فريسة الزمر والشركاء.. وقعقعة ورنين زبر النهبة تصم الآذان، من المحيط ومحيط المحيط، والعائلة، من سماسرة الأرض والسموم، ومتصدري مافيا أسواق التوريد والتصدير عبر البحار والأنهار، بمن فيهم المستحوذون على مدارس الصغار، ممن صيروا ثكنات الشرط بعاصمتهم بعض الأسواق.
محمد ولد اماه