لم يصل المجتمع المدني في موريتانيا إلى مستوى النضج المطلوب، ولن يحصل ذلك في المدى القريب أو المتوسط على الأغلب، بل إنه مطلب ما زال بعيد المنال، حيث بقي نشاط ما اصطلح على تسميته بمؤسسات المجتمع المدني وفي المعظم رهين واجهات وعناوين عريضة، تتجه في الأغلب الأعم إلى الخارج، في نطاق الهموم الخاصة لأصحابها، استجداء للغير وتصيدا للفرص، في عملية بحث دائبة ومضنية في كل الاتجاهات عن موارد رزق، من غير ما تحرج أو تحر عن طيب المصدر من عدمه، ما دامت تلك الجهات مظنة لمورد محتمل، وأيا تكن الخلفية أو الغاية، وفي هذا المعنى ظلت أسواق المزايدات الغربية وشبهها، ممن يعني بتأجيج الصراعات والنعرات في المجتمعات العربية والإسلامية، كل ما كان ذلك ممكنا، أو مفيدا لبرامجها المشبوهة محط رحال القوم، ولبعد هذه الهيئات المكوكية عن هموم الناس، وقلة المصداقية سيبقى تأثيرها على تعدد اللافتات والعناوين محدود أوشبه معدوم.
وقس على ذلك شأن الأحزاب السياسية من خارج السلطة ومؤيديها، فليست هي الأخرى على أحسن ما يرام، إذ صارت مع الأسف إلى واقع أشبه ما يكون بكارتل نقابي عتيق يرفع من حين لآخر عرائضه المطلبية المألوفة في هذه المناسبة وتلك، دون تأثر أو تأثير ذي بال على الرأي العام أو الواقع المعاش.
ورغم ازدياد وعي الشارع بصفة عامة وعلى الأخص في المدن الكبرى المزدحمة بساكنتها وهمومها ومصاعبها، في خضم ثورة وسائط الاتصال والتواصل محليا وعالميا والتذمر المتزايد للمواطن مما يعانيه من أوضاع بالغة القسوة وغير مريحة ومزرية على أكثر من صعيد.. من غلاء المعيشة إلى التعليم مرورا بالصحة والبطالة والأمن..إلخ.
وقد سقطت ورقة التوت عن عورات نظام فقد بريقه ومعه كل الأقنعة، في ظل تصاعد وتيرة الفساد وتعفن مؤسسة الحكم، في وقت أحكمت فيه الزبونية الطوق، وبات استغلال النفوذ عملة متداولة، وتردت الشعارات البراقة في وحل صفقات التراضي البينية، إلى إفلاس الشركات العمومية وشبه العمومية، رغم كل ذلك لم تفلح المعارضة الحزبية ولا المجتمع المدني كما أسلفنا في التقاط خيوط ما يحصل، ونسج خطاب حيوي يأخذ بعين الاعتبار نبض الشارع وحاجاته الراهنة في مواجهة منظومة السلطة الأخطبوطية المنهكة.
ولن يتسنى ذلك في رأيي ما لم توفق الكتل الراغبة في الإصلاح إلى تناغم حقيقي يقدم خطابا جديدا يأخذ الواقع في الحسبان، ويتجاوز المألوف ويعلو على الهم الحزبي الضيق وحساباته.
خطاب عليه أن يتسم بالصدق مع النفس وقبله الصدق مع المواطن، ولن يكون ذلك كافيا دون بروز صوت جامع ووجه مقبول، على أن لا يكون بالضرورة صاحب إيدولوجيا وإنما صاحب مبدأ وقضية، ولاءه لبلده أولا وآخرا. رجل – أو سيدة ولما لا- يتصف بالنزاهة كشرط لا غنى عنه، نظيف اليد، ناصع في ماضيه وغير متهم.
غير أنه لسوء الحظ لم تجد المعارضة الموريتانية المؤسسية في ما يبدو من ينوبها في حمل خطابها في هذه المرحلة المفصلية من تاريخ بلدها، إن في الداخل أو في الخارج، سوى الأسماء والوجوه التي لطالما ارتبطت مصالحا وشخوصا وأهدافا بما عرف بأنظمة الفساد السابق منها واللاحق.
ولربما كانت هذه الأسماء نفسها والتي صارت بقدرة قادر تتصدر عناوين الطيف السياسي المناوئ للنظام الحاكم، وفي وجه من الوجوه هي من أنتجه ورعاه، وكانت بعض قوادمه وخوافيه، ولعل الخلاف بين طرفي "العائلة الواحدة"، النظام من جهة، وتلك الأسماء أو الوجوه من جهة أخرى، ليس انتصارا للضحية في جوهره، بقدر ما هو خصومة على الحظ والنصيب والدور..!!
كلا .. فالمعارضة الجادة، ومن يهمهم أن يسود القانون فيصلا بين الجميع، وأن تتكافأ الفرص بين أبناء الوطن الواحد، بالعمل على هزيمة الفساد وحماته، من مافيا أنظمة التسلط والنهب المنظم، كان عليهم التوجه بالمقام الأول والأخير إلى المكتوين بسياط الحرمان ومرارة التهميش وعدم المساواة.. لا إلى تلك الرؤوس الكبيرة الضالعة..، مهما حملت من ألقاب، أو الوجوه المترفة المطلة من خارج الحدود، تلك التي رتعت وبشراهة لعقدين أو يزيد، إبان حكم الرئيس الأسبق ولد الطايع دون حسيب أو رقيب، وأثرت أكثر من غيرها، وعلى حساب قوت شعبها، تخريبا ونهبا وتبييضا للمال العام، وكانت الوجه الآخر لذلك النظام نفسه، إن لم نقل الوجه الأسوء.
اللهم إلا أن تكون المعارضة الحزبية التقليدية وتكتلاتها الجديدة أصيبت على مستوى الحواس الخمس أو الست .. أو "تغير" وفجأة أصحابنا بمعجزة وإلى هذا الحد، تغيرا طالهم في قصورهم العاجية ولاحقهم بمنتجعاتهم ومنافيهم الاختيارية ، وهو الأمر البعيد الاحتمال.
محمد ولد أماه