اتسمت الآونة الأخيرة بتسارع في وتيرة الأحداث تسارعا مربكا ’ و بوتيرة غير معتادة ’ و ربما كان أحد تجلياتها الدراماتيكية الأبرز سيتجسد وطنيا في الرحيل المباغت لأحد أهم وجوه المشهد العسكري و الأمني و السياسي الموريتاني في العقود الثلاث الأخيرة ’ و على التوالي ’ الرئيس الأسبق اعل ولد محمد فال ’ الذي كان ركنا فاعلا من أركان حكم معاوية ولد الطايع طيلة عقدين من الزمن ’ و صانع للحدث في عملية الإطاحة بالأخير في ثورة من ثورات القصر المثيرة للجدل ’ و الحلول محله أغسطس 2005م ’ ومن دون تردد في اتخاذ القرار الصائب بإفراغ السجون السياسية من روادها ’ ليتولي بنفسه رعاية انتخابات شفافة و نزيهة ’ لأول مرة في تاريخ هذه البلاد ’ في ظل مصالحة وطنية نادرة الحدوث ’ تمخضت عن انتخاب رئيس مدني بالاقتراع الحر و المباشر ’ العمل غير المسبوق منذ قيام الدولة الوطنية الحديثة .
كل ذالك في إطار تنافس سياسي تعددي ’ و في جو ديمقراطي احتفالي رائع ’ راعى الآجال و المساطر القانونية المقررة بكل شفافية ’و حسب نتائج صناديق الإقتراع ’ و حظي بشهادة القاصي و الداني ’ ليترك العقيد رئيس المجلس العسكري ’ بسلاسة و شرف كرسيه للرئيس المدني المنتخب الجديد ’ و عن طيب خاطر في يوم مشهود من عام 2007م ’ قبل الإطاحة بالأخير ’ و لم يكمل بعد سني الفطام الأولى من حكمه ’ عن طريق انقلاب عسكري مطاط ’ لونه من ألوان "بازب" ’ انقلاب كان بقيادة جنرال حديث عهد بنياشينه ’ حرص الرئيس المطاح به وعلى حين غرة على تعيينه ’ و على عجل في رتبة الجنرالية قبل السقوط.
كان بطل الفصل الجديد من فصول المسرحية ’ قائد حرس "القيصر" _ فموريتانيا و قبل أي شيء آخر "إرث" روماني _ الرئيس الحالي محمد ولد عبد العزيز ’ الجنرال و قائد الحرس الرئاسي القديم الجديد.
و إن مثل ما حدث عند الكثيرين ليلة إذ صدمة كبرى ’ وإجهاضا مقصودا ’ و ترصدا للديمقراطية الوليدة ’ ووأد في المهد لأمل مشرق و تجربة اشرأبت لها الأعناق في المشارق و المغارب ’ و كان طعنة في الخاصرة للتحول السياسي الذي كان الجميع بانتظار ثماره الواعدة. طعنة لم يغفرها خاصة ولد محمد فال في ما يبدو للرجل القوي الجديد الممسك بخيوط اللعبة قط ’ و إن كان ابن العم و العشير ’ فالمبادئ بالنسبة للضابط الشهم كألوان الوطن فوق كل اعتبار’ و كأنه وضع نصب عينيه مقالة أخى الأوس لابن عمه : سأمضي وما بالموت عار على الفتى إذا ما نوى حقا و لم يلف مجرما
فإن مت لم أندم و إن عشت لم ألم كفى بك موتا أن تذل و ترغما
وصلت الأمور إذن نقطة اللاعودة بين "الشريكين"السابقين.
و كأن الراحل آلمه و ربما أكثر من غيره ما اعتبره اغتيالا للمشروع الوطني الجامع ’ الذي ما كاد يرى النور حتى أجهز عليه ’ إذ سيصف الرئيس الراحل بأن دوافع ما حصل الأغراض الشخصية لا غير ’ التي ما برحت تذكيها مصالح الزمرة و العائلة و الأصدقاء و الأصهار... كابوس حقيقي كان على الراحل أن يعيشه في كل محطات حياته اللاحقة و حتى رحيله المفاجئ بتيرس ’ حيث كان هناك على موعد مع القدر المحتوم ’ في عمق صحار ي الشمال في رحلته الأخيرة ’ بصحراء لم ينفك ارتباطه الوجداني يشده إلى ربوعها ’ كغيره من أبناء الصحراء.. حيث ينمو" عشب الطير و آسكاف... " كما النوق ’ وتستن الفصلان و يرعى القطيع و تدر اللقاح... و لكنها كذالك و ككل فيفاء ’ فضاء بلا حدود و تيه بلا معالم و بلا ملامح ’ صيفه قيظ و ليله بهيم... و لطالما انطوى وغيب في ثناياه و من حين إلى حين ’ رجالات من خيرة الرجال ’ من رعيل الراحل اسويدات الرائد الشهيد ’ و صنوه اليوم.
و لعلي أعود هنا إلى بعض ما كتبته عن المرحوم في المناسبات السابقة ’ من دون لوم للنفس أو تقريع للضمير ’ لا لأنني لم أعرف الرجل عن كثب أو التقيه فتلك حظوة فاتتني ’ أو لأني قد أسأت الخطاب في التعرض للراحل كشخصية عامة و هو ما لم يحدث و معاذ الله ’ و إنما لأني و كما أشرت سبق لي و هو في عز حياته أن كتبت مقالتين كانت إحداهما قبل رحيله بقليل و الأخرى منذ بعض الوقت ’ كان الموضوع الأول ربما بسبب حديث الإعلام المحلي المبالغ فيه في ذالك الوقت ’ عن لقاءات دولية تضم الراحل كرئيس سابق للبلد ’ و تحضرها أو تنظمها هيئات وثيقة الصلة بالكيان العبري ’ كان المقال بعنوان "عفوا سيدي الرئيس" أسديت فيه خالص النصح و أبديت تحفظي الخالي بالطبع من كل ضغينة ’و الثانية و الأخيرة كانت بعنوان "هل تغير أصحابنا إلى هذا الحد" و كانت قراءة في المشهد السياسي الراهن.
و من أبلغ القول و أصدقه "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم" و أغلب الظن أن الراحل اعل كسب الناس و العقول في حياته و بعد الرحيل فاز بالقلوب و العبرة بالخواتيم ’
و لنا و له المغفرة و الرحمة بإذن الله ’ و لعائلته أبلغ العزاء ’ و حسبنا الله و نعم الوكيل ’ و لله الأمر من قبل و من بعد.
و لعل من الوفاء لذكرى فقيدنا الإصرار على إعادة الاعتبار لإرادة أبناء هذا الشعب الصبور’ في وطن يراعى فيه العدل و تحل فيه المساواة و يسود الإنصاف.
و لأن الحديث ذو شجون ’ و لأن بعض حديثنا كان عن فترة لعب فيها الجيش و قادته أدوارا خطيرة أثرت و ما زالت تأثر على حاضر و مستقبل كل فرد من أفراد أمتنا ’ لم يأخذ فيها رأينا في الغالب ’ و تداول الرجال مصائرنا فرادى و جماعات بالغصب لا بالاختيار ’ و إن راودتنا أحلام الحرية في تلك الدوامة و الكرامة كغيرنا ’ فقد استوقفتني في الأثناء و في موضوع ذي صلة قراءة في أفكار بعض كبار القوميين الموريتانيين العرب السابقين ’ ممن أماطوا اللثام من خلال ما كتبوه مؤخرا أنهم ما زالوا يتكئون على أدبيات عفى عليها الزمن ’ تعود إلى أولى عقود القرن الماضي و حتى سبعينياته ’ و كأنهم في وادي غير وادينا ’ معرضين بذالك عن العصر و سياقه ’ أو هكذا يبدو ’ عندما يطالعنا أحدهم ’ و كأنه استيقظ للتو من سبات عميق ’ بطللية نثرية طويلة تستنجد الأموات و تستصرخ الرمم... الناصر صلاح الدين ’ جمال عبد الناصر!! منتظرا المخلص المنشود ’ بزعمه ممن يحذوا حذوهم ’ أو في من يكون على شاكلتهم"!! و ما غاب عن أخينا العزيز مع ما لمن ذكرناهم من مكانة تاريخية لا تنكر’ أن لكل عصر رجاله ’ و أن المخلص الحقيقي في أيامنا ’ لم يعد و لن يكون ذالك المستبد العادل أو غير العادل ’ الزعيم الذي ينوب عن الأمة في حل مشاكلها المستعصية ’ كما أن الخلاص لن يتم و لم يحدث أن حصل ذلك في الماضي بتاريخنا المعاصر على الأقل على يد انقلابي كبير أو دكتاتور صغير أيا يكن ’ ولنا عبرة في أقطار الأمة المنهارة من المحيط إلى الخليج و أي عبرة ’ و ما عابه المعني في مقالته على بعض فرق الشيعة الاثني عشرية ’ وبعض الحركات الإسلامية السنية الأصولية ’ وقع فيه من حيث لا يدري ’ بتبنيه الاستبداد ’ و بالانتظار المحزن لمنقذ ما ’ أو لمهدي لن يأتي في صورة مثله الأعلى ’ مصلتا سيف العروبة البتار!!
و أصحابنا الغيورون ’ من انواكشوط إلى بغداد خير من يعلم ’ فهم من عاشروا الاستبداد و بايعوه و بشروا به ’ و حلو ضيوفا دائمين على موائده ’ و شربوا على مآدبه و من كأسه الروية و حتى الثمالة. في ما ينبري وجه آخر من وجوه القوم ’ و هو من تولى إعلاميا ’ تصدر كبر حملة "أوركستر" الفتك و تغويل الرئيس المدني المطاح به سيد ولد الشيخ عبد الله 2008م ’ و في خروج عن المألوف مسترسلا مع الذكريات ليشاركنا بعض ما ظل يخفيه ’ ومن ذالك ضلوعه الشخصي في أكثر من تمرد و مؤامرة انقلاب ’ في تحريض لا ينفك على العصيان بصفوف الجيش ’ و في تحامل لا مبرر له و بلا معنى ’ يصب صاحبنا تارة باسم النضال و طورا باسم الثورة جام غضبه و لعناته على الحكم المدني في موريتانيا هذه المرة ما قبل 1978م؟!!
و المستغرب و مبعث الحيرة عندي من بعض رموز جناحي القومية في موريتانيا معا ’ بعثا و ناصريون’ زهدهم في قراءة و تفسير التاريخ ’ و استخلاص العبر منه على وجه التحديد ’ و كيف لم ينظروا إلى أمريكا اللاتينية بين الأمس و اليوم ’ وهي التي خبرت الإنقلابات العسكرية قبل غيرها ’ بعد ما تعافت من الدكتاتوريات العسكرية البغيضة الفاشلة ’ و حتى إلى بعض بلدان قارتنا الإفريقية ’ كالسنغال’ غانا ’ وبوركينا فاسوا بعد التخلص من الدكتاتور ’ على غرار ماشهدته تونس ’ و مفعول الديمقراطية العجيب في تطور الهند الدولة القارة.
و مجمل القول فإنه إن كان هناك خلاص حقا ستعول عليه شعوبنا المغلوبة على أمرها ’ و تحت أية حجة ’ فلن يكون مرهونا بحاكم عسكري مهما كان لون بذلته ’ و إنما هذه التعددية و الديمقراطية التي لن تؤتي ثمارها أو أكلها’ إلا إذا وجدت نخبة مسئولة تقدر مواطنيها ’ نخبة لا تقوم على الفساد و لا تعيش عليه ’ بل تقود شعبها و تحميه ’ و هي النخبة التي نفتقر إليها مع الأسف.
و لسوء الحظ فإن الديمقراطية الموريتانية خسرت أحد فرسانها للتو ’ و هو من كان فهمها حق الفهم و قدمها في أبهى حللها و آمن بها’ الراحل اعل ولد محمد فال و حتى آخر لحظة من حياته ’ ولا أجد سببا يمنع من أن نتخذه القدوة في هذا الباب . و خلافا لما يدعيه البعض ’ فالحكم المدني و حتى من دون ديمقراطية كان أقل أذى من غيره من الأحكام الانقلابية ’ و أفضل ما نمتلكه يحسب له لا عليه ’ من قبيل العملة الوطنية الأوقية ’ اسنيم ’ إصلاح التعليم ’ العلاقة الصحية مع الجوار و الإقليم و العالم الجديد و القديم ’ و نظافة اليد و الذمة التي صار الحديث عنها اليوم حديث خرافة.
محمد ولد أماه