بعد ما يقترب من أربع سنواتٍ، من ظهوره، فإن فيديو كليب «بدأ في نواكشوط» بات بنظر كثيرين هو أشهر كليبٍ غنائي موريتاني بالمواصفات الحديثة، وذلك بفعل ما أثاره من جدلٍ اجتماعي وإعلامي كبير، غلب على النقاش العام في البلاد.
الكليب، الذي ظهر في نهاية عام 2013 بإنتاجٍ من شركة موريماكس، جعل من اليوتيوب منصّة عرضه الرئيسيّة. وعد أول انطلاقةٍ فنية لمُغنيه فنان الراب الشاب الموريتاني حمزو براين، الذي يبدو، من خلال حضوره اللاّفت، مُصممًا على التقدم للأمام بثقةٍ.
يتطرق الكليب لقصة حبٍّ رومانسية بين شابٍ (المغني) وفتاة (الموديل ليلى مولاي) عارضًا بعض المشاهد من حياتهما الواقعية. مشاهدٌ تبدأ من نظرة اللقاء لأول مرةٍ في أحد مقاهي نواكشوط الجديدة، لتتوالى إثر ذلك في شريطٍ بصري يعتمدُ عرضًا تعاقبيًا لهما.
كلّ ذلك، ضمن إطارٍ مشهدي متناسق بصريًا نقلته كاميرا مصقولة الصورة ومحكمة التوجيه، على ضوء إيقاعات موسيقية هادئة رافقها بمستوياتٍ متباينة غناءٌ بالانكليزية والفرنسية واللهجة الحسانية.
من خلال متابعة اليوميات في الكليب سيتبادر فورًا إلى ذهن المُشاهد انطباعٌ مفاده أن طرفي القصّة في الكليب سعيدان جدًا بعلاقتهما، كما في مشاهد متعددة تجمعُ بينهما في حالةٍ من التفاهم والتقارب والضحك واللعب والرقص، تؤكد تمامًا الطابع شبه الاحتفائيّ الذي يعدّ خاصية الكليب الأساسية: الفرح بقصّة حب في نواكشوط.
لكن عند الانتهاء من مشاهدة الكليب، فالأرجح تقريبًا، أنّ القلق على مصير تلك العلاقة السعيدة سيداهم قلب المُشاهد، حيث أنه سيبرره بالقول أن سعادة الحبيبين في علاقتهما ربما جعلتهما ينسيان أنّ أجواء الحرية هذه ليست، على المستوى الأغلب والعام، مألوفةً في مدينة نواكشوط. وهي أجواءٌ تشكل جزءًا كبيرًا من مشاهد الكليب العامة، ولاتقتصرُ فقط على علاقةٍ بين حبيبيْن توحي، من خلال حصولها في فضاءاتٍ مدينية عمومية، بأنها غير تقليدية أبدًا، وإنمّا تشملُ أيضًا وعلى نحوٍ خاصّ ظهور الفتاة في القصّة بدون ملحفةٍ تغطي جسمها ورأسها، كما يوجبُ ذلك التقليد الثقافي لأغلب سكان نواكشوط وموريتانيا الناطقين بالعربية، والذين بحسب الطابع العام للكليب، تنتسبُ الفتاة إليهم ثقافيًا وعرقيًا.
بما أنّ أغلب ظهور الفتاة في الكليب كان بدون الزي الثقافي التقليدي للمرأة، فقد جرّ إليه ذلك لعنات كثيرين رأوا فيه غزوًا ثقافيًا يسعى لمحاربة أخلاقَ المجتمع وقيمه، ووصفوه في ذلك الصدد بـ»الفن الهابط». وكانت حركة «لا للإباحية» أكثر الجهات تنديدًا بالكليب على أساسٍ دينيّ وأخلاقيّ، مع المطالبة بمحاكمة المساهمين في الكليب قضائيًا، الأمر الذي ترتب عليه استدعاء المشاركين فيه إلى مفوضية الشرطة.
أصحابُ الكليب من جهتهم ردّوا بالقول أنّ هدفهم لم يكن إثارة المجتمع وإنما الرقي بالفن الموريتاني، مُضيفين أن قضية الزي اشترطها سياق المشاهد لتبدو أكثرُ واقعية فنية، كما أكّدوا أنّ الحملة الموجهة ضدّهم تعتمدُ أسلوبًا منافقًا، ففي حين أن المنخرطين فيها يشنون عليهم هجومًا شديدًا، فإنهم في الوقت نفسه يغضون النظر عن الفيديو كليبات التي تظهرُ فيها فتياتٌ من الشرائح الزنجية في المجتمع يرتدين زيًا مماثلًا، على الرغم أنهنُّ أيضًا فتياتٌ مسلمات؛ ويعللُ أصحاب الكليب ذلك بالقول أنّ المنخرطين في الحملة المضادة لهم ما قاموا بذلك إلاّ لأنّ موديل الكليب تشاركهم الانتماء للشريحة الناطقة بالعربية في المجتمع الموريتاني. ولم يقتصر الجدل الذي أثاره الكليب فقط على التنديد به لأسبابٍ دينية وأخلاقية، إذ أنه شمل بالمقابل الإشادةَ به من طرف عددٍ من المدونين والنشطاء الاجتماعيين الذين رأوا أنه مثّل تجديدًا فنيًا جاء ليفتح أمام الفن الموريتاني البابَ على العالمية، معتبرين أنّ حملات التنديد المضادة للكليب تعبر عن عقليةٍ رجعية لا تريد التقدم لموريتانيا.
سعى الكليب إلى محاكاة نمط صناعة الفيديو كليب المعاصر في كل سماته، دون الخضوع للاشتراطات المحلية في الأداء الفنيّ. فبالإضافة إلى كونه لم يعتمد أيًا من أنماط الأداء والتلحين في الموسيقى التقليدية في موريتانيا، فإنّ الكليب، من خلال مغنيهِ، خالف ما تقوم عليه المنظومة الثقافية من إسناد فن الغناء والموسيقى بشكلٍ حصري إلى فئة «إيكاون» التي لا تزال إلى حد اللحظة تعمل، عن طريق التوارث النَسبي، في حقل الموسيقى والغناء بعد تاريخٍ طويل على توليها له. من هنا فقد كان قيامه بالغناء خرقًا لحدودٍ ثقافية رُسمت قبل عدّة قرون، وإن لم يكن غناؤه تجسد في الإطار الجمالي للموسيقى التقليدية في موريتانيا. ونظرًا إلى أنّ التنديد بالكليب تمحور حول الفتاة تحديدًا، فإنّ ذلك ربما يستدعي قول البعض أنه كان تنديدًا ذكوريًا لا يريد للمرأة وجودًا شخصيًا وعموميًا خارج ما حدّده المجتمع لها، غير أنّ عامل الصناعة في الكليب كان يشترطُ ظهورها على ذلك النحو حتى يبدو مشابهًا لنموذج الصناعة الفيديو- كليبية الغريب كليًا على الساحة الفنيّة في موريتانيا.
اليوم، وبعد ما يقارب أربع سنواتٍ على ظهوره، فإن فيديو كليب «بدأ في نواكشوط» يعدُّ بدايةً أساسية لا يمكن تجاوزها في تاريخ الفيديو كليب الموريتانيّ، حيث لقي إقبالاً ملحوظًا من فئاتٍ شبابية واسعة تجد نفسها في أنماط الموسيقى الحديثة أكثر من غيرها.
على أن العتبة تبقى قائمة أمام أيّ نمطٍ مشابهٍ له، فإذا كان البعض قد رفضه لأسبابٍ دينيّة، فإنّ البعض الآخر أيضًا يرفضه لأسبابٍ فنية ثقافية معتقدًا أن النمط الغنائي بكل جمالياته الكلاسيكية الرسمية يبقى أكثر أهميّة في حقل الموسيقى والغناء بموريتانيا، وتبعًا لذلك لايحق بأيّ حالٍ من الأحوال أن يستبدلَ بما هو جديدٌ كليًا. وذاك ما يطرح تحديًا وجوديًا حقيقيًا أمام صناعة الفيديو كليب مستقبلاً في موريتانيا.
نواكشوط – عالي الدومين