ها قد مضت على «حرب الايام الستة» عام 1967 خمسون عاما بالتمام والكمال، لكن «إله بني اسرائيل» لم يسترح بعد.
في مأثورات «بني اسرائيل» من قصص واساطير توراتهم، ان الله خلق الكون وكل ما فيه في ستة ايام، وكان ما خلقه في ذلك اليوم السادس آدم، ومن ضلعه خلق حواء. وتنتهي هذه الرواية بتعبير: «…وفي اليوم السابع استراح»، ومنه تأخذ اليهودية قُدسية عطلة اليوم السابع، والامتناع والاضراب عن أي عمل.
اما في مأثورات الاسلام، فان الله في ذلك اليوم «…استوى على العرش».
«بنو دولة اسرائيل» في ايامنا «خَلَقوا» في ستة ايام، كما إلههم بالضبط، «امبراطورية اسرائيل». وذهب «إلههم»، موشي ديان، ليريح عينه وينام، دون ان ينسى وضع هاتفه قرب سريره في انتظار ان يرِنَّ جرسه، ويكون على الطرف الآخر القائد العربي جمال عبد الناصر، ليبلغه قراره بالاستسلام.
لم يرن هاتف «إله بني دولة اسرائيل»، وما «رَنَّ» بعد ذلك في أُذن ديان بعد ثمانية اشهر، في يوم معركة الكرامة، 21 آذار/مارس 1968، كان جنازير دباباته ومدرعاته المقهورة والمدمرة والمتقهقرة. وتراجع ديان عن قوله يوم 14.2.1968 «فتح ليست اكثر من بيضة في يدي، اكسرها متى شِئت»، وعندما واجهه احد الصحافيين في ذلك المؤتمر، بتذكيره بوجود تناقض كامل بين تصريحه ذاك، وما قاله غداة «معركة الكرامة»، اجابه ديان بمقولته الذكية والجميلة: «الحمار وحده لا يُغيّر رأيه».
تلا «رنين» معركة الكرامة رنين «حرب الاستنزاف»، ثم تلا ذلك رنين الانفجار الهائل المُشرِّف لحرب اكتوبر/تشرين الاول 1973.
بعد ذلك باربع سنوات، اوفده رئيس حكومته، مناحيم بيغن، ليفاوض مصر على الانسحاب من كل شبه جزيرة سيناء، وليس من شرم الشيخ فقط، مقابل توقيع اتفاقية سلام مع مصر، رغم انه هو نفسه، ديان، صاحب شِعار: «شرم الشيخ بدون سلام، خير من سلام بدون شرم الشيخ».
هذا هو التاريخ القريب، بحلاواته القليلة النادرة، التي يجدر بنا تذكُّرها، ومراراته الكثيرة المقيمة، التي يجدر بنا ألّا ننساها، وأن نتعلم منها. ذلك ان ليس كل ما هو كثير ومسيطر ومهيمن دائما بالضرورة، إلّا في حالة عدم الاستفادة من دروسه وأخذ العبرة منه.
بدأت الحكاية، حكايتهم/مأساتنا، بفكرة اطلقها «نبيّهم»، بنيامين تيودور هرتسل، هي تشكيل تنظيم/حركة سياسة لليهود في اوروبا، تهدف إلى تجميعهم، واستخدام كل ما امكن من طاقات وقدرات بشرية ومالية وتحالفات، لاقامة «دولة اليهود»، (هذا كان عنوان كتابه المُؤَسٍّس، ولم يكن مطروحا اقامة «دولة يهودية»، وبين التعبيرين فرق واختلافات غاية في الاهمية).
بعد خمسين سنة، وكما «تنبّأ» هرتسل بالضبط، صاحب التعبير/الحكمة المشهورة: «ان اردتم فليست تلك اسطورة»، اعلن دافيد بن غوريون اقامة «دولة اسرائيل» على ما اقرته الشرعية الدولية، بقرار الجمعية العامة للامم المتحدة، حول اقتطاع 52 في المئة من «ارض فلسطين»، حسب خريطة الانتداب/الاستعمار البريطاني لفلسطين، لاقامة «دولة لليهود»، وتخصيص 43 في المئة من «ارض فلسطين» لاقامة دولة عربية فلسطينية، ونحو 5 في المئة من ارض فلسطين، وهي القدس ومحيطها، لتكون منطقة تحت سيادة وادارة دولية. الا ان الحرب التي اندلعت بين الدول والعربية والدولة الوليدة، ادّت إلى التوصل إلى اتفاقيات هدنة بين اسرائيل من جهة، وبين كلٍّ من مصر والاردن ولبنان وسوريا، وادّت إلى شبه اعتماد دولي لاعتبار خطوطها، التي ضمّت 78 في المئة من «ارض فلسطين»، هي حدود «دولة اسرائيل». وهكذا خسر الفلسطينيون 26 في المئة اضافية، في حرب لم يخضها الشعب الفلسطيني رسمياً، لأنه، وببساطة، لم يكن قد نال استقلاله بعد، ولم يكن صاحب سيادة، لا على ارض وطنه فلسطين، ولا على نفسه ايضا، كشعب يتمتع بحق تقرير المصير.
كان طبيعيا وعادلا تماما ان لا يقبل العرب والفلسطينيون الاعتراف رسميا بـ«دولة اسرائيل». ولكن دولة اسرائيل، وهي في التاسعة عشرة فقط من عمرها، وقبل ان تغادر سن المراهقة، وفي «ستة ايام» كارثية، حولت نفسها من دولة إلى «امبراطورية».
وجاء الرد العربي بـ«اللاءات الثلاث»: لا صلح، لا اعتراف، لا مفاوضات. الا ان الدول العربية، وفي نفس قمة اللاءات الثلاث في الخرطوم، فتحوا بابا «مُوارباً» للتسويات، تم التعبير عنه بتبني شعار «ازالة أثار العدوان» بما يعني التغاضي عن العدوان الاول المتمثل باقتطاع 78 في المئة من ارض فلسطين لاقامة «دولة اسرائيل»، والتركيز على ازالة آثار العدوان، أي الاعتراف الضمني بـ»دولة» اسرائيل، والتصدي والرفض لـ»امبراطورية» اسرائيل. وبعد خمسة وثلاثين سنة على نكسة/كارثة حزيران/يونيو، اقرت القمة العربية في بيروت عام 2002، «المبادرة العربية»، والحقت ذلك باعتماد «القمة الاسلامية» لتلك المبادرة، وليصبح موقف 52 دولة عربية واسلامية: انصفوا الفلسطينيين «جزئيا»، واعترفوا بحقهم في اقامة دولتهم المستقلة، وعاصمتها القدس العربية، وطبِّعوا العلاقات معهم، تعترف بدولتكم 52 دولة عربية واسلامية، وتقيم علاقات معكم وتتطبّع علاقاتها بكم.
تنازلت دول عربية عن «اللاءات الثلاث» العربية. وهنا رفعت «امبراطورية اسرائيل»، «لاءات» اسرائيل الثلاث:
ـ «لا مساواة» بخصوص الفلسطينيين في اسرائيل. ويتم تأكيد ذلك بسلسلة من القوانين العنصرية التي تسنها الكنيست/البرلمان الاسرائيلي.
ـ «لا دولة مستقلة للشعب الفلسطيني»، من خلال مط مسلسل «المفاوضات»، وتكديس العراقيل، واختراع شروط لا يمكن قبولها.
ـ «لا عودة للاجئين»، تمشيا مع السياسة الاسرائيلية المقرة منذ عام النكبة 1948، ولا فتحا لبند التعويضات من الجانبين: الفلسطيني، خشية ان يتم تفسير طرح بند التعويضات على انه تنازل عن «حق العودة»؛ والاسرائيلي، خشية ان يؤدي فتح باب التفاوض حول بند التعويضات إلى طرق ومسارب وقنوات لا تريد اسرائيل اثارتها ولا ولوجها ايضا.
في ستة ايام فقط، اصبحت «الدولة» المراهقة «امبراطورية» مراهقة. بَلَعت ما لم تستطِع هدمه من تاريخ وحقوق تاريخية، وما لم تستطِع هضمه من واقع وجود ملايين من شعب فلسطيني يصر على حقه في تقرير مصيره.
تسعى اسرائيل هذه الايام، مدعومة من الولايات/الدول المتحدة الأمريكية، إلى التوصل إلى معادلة «حل اقليمي» هو في نظرها تطبيع مع دول عربية، مع القفز والتخطي للتطبيع مع الشعب الفلسطيني، بما يترتب على ذلك من اعتراف بالدولة الفلسطينية المستقلة على 22 في المئة فقط من ارض فلسطين، وعاصمتها القدس العربية، وحق الفلسطينيين في اسرائيل بالمساواة، وحقوق اللاجئين في الفلسطينيين في العودة و/او التعويض.
هل تنجح اسرائيل في تحقيق هدفها هذا.
هذا سؤال من شَقّين: هل السلام المطروح هو سلام وتطبيع مع قصور عربية، ام هو سعي لسلام مع الشارع العربي؟
لو ارادت اسرائيل سلاما مع قصور عربية، بل ربما مع كل القصور العربية، لكان الاحتمال واردا وممكنا، وربما انه اكثر من ذلك: بمعنى انه امر مُرحّب به، من قبل ساكني قصور الحُكم العربية، او بعضهم على الاقل.
اما إذا كان الهدف الوصول إلى سلام مع الشارع العربي الشعبي، فذلك ما لن يتم دون الاقرار بحقوق الشعب الفلسطيني، بحدّها الادنى، بمقاييس ومعادلات ايامنا هذه.
السلام والصلح مع قصور الحكم العربية يريح اسرائيل. السلام والصلح مع الشارع العربي يريح الاسرائيليين. فأي سلام يسعى حكام اسرائيل لتحقيقه؟.
انه سؤال جيد للاسرائيليين. فهل المطلوب ان يستريح الخالق، ام ان تستريح مخلوقاته؟.
٭ كاتب فلسطيني