التحقيقات مع المعارضين تُلقي بظلالها على المشهد
بعد انتظار طويل، وسط أجواء مشحونة بتحقيقات قضائية مثيرة مع معارضين، انطلقت في موريتانيا أمس ترتيبات مرحلة ما بعد استفتاء الخامس من أغسطس/ آب، حيث أنهت اللجنة العليا المكلفة بمتابعة تنفيذ نتائج الحوار الوطني الشامل اجتماعا لها خصص لإعداد مجموعة القوانين لصياغتها وجردها وجدولتها طبقا لما نصت عليه التعديلات الدستورية.
وتتحدث المصادر شبه الرسمية عن اقتراب تشكيل حكومة جديدة ستكلف بمهام المرحلة المقبلة التي يجمع المراقبون على حساسيتها كونها محكومة بدستور معدل باستفتاء شعبي تطعن المعارضة في صحته وشرعيته، وقربها من انتخابات 2019 التي يفترض أن ينتخب فها رئيس جديد غير الرئيس الحالي الذي يخوض حاليا آخر ولاية دستورية له.
ولم تشغل هذه الترتيبات الرأي العام عن متابعة التحقيقات الجارية مع أعضاء مجلس الشيوخ ومع قياديين نقابيين وصحافيين متهمين «بتلقي رشاوى سياسية من رجل الأعمال المعارض محمد ولد بوعماتو المقيم في المغرب، موجهة لزعزعة الاستقرار في موريتانيا».
وقد بدأت ردود فعل الهيئات النقابية الدولية المنددة بمضايقة النقابيين تصل، حيث شجب الاتحاد الدولي للنقابات في رسالة للرئيس الموريتاني أمس ما سماه «حملة التهديد التي يتعرض لها هذه الأيام الأمين العام للكونفدرالية العامة لعمال موريتانيا السيد عبد الله ولد محمد الملقب النهاه.»
وعرضت شاران بارو الأمينة العامة للاتحاد النقابي الدولي في رسالتها للرئيس الموريتاني «ظروف استجواب القيادي النقابي المذكور والمسطرة التي تم بموجبها وضعه تحت الرقابة القضائية وما شاب كل ذلك من خروقات وانتهاك للقوانين المعمول بها».
وأكدت «أن تقييد حق النقابيين في حرية التنقل يعد خرقا سافرا لمبدأ الحرية النقابية الذي كرسته اتفاقية منظمة العمل الدولية رقم 87 التي صادقت عليها موريتانيا خلال السنوات الأولى للاستقلال».
وأشار الاتحاد النقابي العالمي إلى «أن الاستجوابات الممنهجة والعشوائية تنذر بخطر التعسف والشطط وقد تشكل تهديدا خطيرا للحريات النقابية»، مطالبا «الحكومة الموريتانية بوضع حد فوري للممارسات الرامية إلى تهديد ومضايقة القيادي النقابي عبد الله ولد محمد الملقب النهاه وإلغاء المساطر القضائية بحقه جميعها».
وذكّر الاتحاد الدولي للنقابات في رسالته الرئيس الموريتاني بأن الاتحاد «يمثل 181 مليون عامل وعاملة منتظمين في 340 منظمة في 163 بلدا واقليما، وبأنه من أكبر وأقوى المنظمات النقابية العمالية وأكثرها تأثيرا على مستوى العالم.»
وضمن الاهتمام بهذا الملف، انتقد المحامي اليزيد ولد يزيد أمس في معالجة قانونية التحقيقات الجارية مع الشيوخ قائلا: «يبدو في الوهلة الأولى أن هذا الملف غير قضائي ولا جنائي، كما يريد النظام أن يصوره، بل هو مجرد تصفية حسابات سياسية، وبما أن الشخص الحاكم هو الذي يقوم بتصفية حساباته السياسية، فإن وسائل أمن الدولة جميعها تم توظيفها في القضية».
وعن السياق العام للقضية أضاف اليزيد «في يوم 17 مارس/آذار 2017، رفض مجلس الشيوخ بأغلبية كبيرة مشروع التعديل الدستوري الذي قدمه وأراده ولد عبد العزيز، وبدلا من التخلي عن المشروع كما يبرز بشكل طبيعي من أحكام الدستور، قرر هذا الأخير استدعاء استفتاء مباشر لتمرير تعديله، متذرعا بحكم دستوري لا علاقة له بالسياق، ولكن هذه القصة المؤسفة والمخجلة يعرفها الجميع».
وزاد: «لقد توجس الجميع بأن هذا التعديل الدستوري مجرد إعداد وتمهيد لتعديل آخر أكثر خرقا للديمقراطية، لأنه قد يمكن ولد عبد العزيز من الخلود في السلطة، وإذا كانت هذه هي إرادة هذا الأخير، فإن انشغاله الأول سيكون بطبيعة الحال إزاحة وتحييد وتدمير الخصوم السياسيين جميعهم الذين قد يمنعونه من ذلك، وفي مقدمتهم أولئك الذين كادوا، على وجه التحديد، أن يُفشلوا تعديله الأول ـ الأسهل ـ تمريرا».
«إن هؤلاء الخصوم، يضيف المحامي، معروفون بطبيعة الحال: فهم أعضاء مجلس الشيوخ الذين رفضوا التعديل بتضامن وكرامة مثاليين، كما يتعلق الأمر بالسيد محمد ولد بوعماتو، المعارض الخفي، الذي يخشاه الرئيس الحالي أكثر من أي شخص آخر، والذي يضطهده منذ سنوات عديدة (يتذكر الجميع الأزمة الملحمية في عام 2013 وسجن محمد ولد الدباغ لأكثر من ثلاثة أشهر)، بسبب ثروته ومهاراته الشخصية وعلاقاته وتبرعاته المعروفة في موريتانيا وخارجها، وأيضا بسبب بعده واستقلاله عن ولد عبد العزيز (بعد أن نصبه ملكا)، والذي حمله على المنفى الطوعي (أو القسري؟) منذ أكثر من سبع سنوات، لذا يبدو السيد ولد بوعماتو أكثر وأكثر بمثابة الرجل الذي يجب القضاء عليه».
وتابع المحامي اليزيد يقول: «في الواقع، يمكننا أن نراهن على أن التحقيق الذي بدأ للتو لن يغير كبير شيء، فهذه المسألة لا علاقة لها بالرشوة وهي سياسية بامتياز، ومن شأن هذا الملف تمكين ولد عبد العزيز من حل العديد من الصعوبات السياسية كمحو الهزيمة النكراء التي شكلها له تصويت مجلس الشيوخ، ومن خلال هذا الملف يقول للرأي العام: ليس مجلس الشيوخ هو الذي رفض مشروعي، بل مرتشون».
«وأخيرا وليس آخرا، يضيف: يربط ولد عبد العزيز كل هذا بمحمد ولد بوعماتو الذي يبدو أنه الهدف الخفي لهذه المناورة الماكرة، وبعد ترتيب الأمور، يستطيع ولد عبد العزيز بهذه الطريقة المضي قدما في ورشاته المستقبلية، وفي غضون ذلك، تكون موريتانيا قد تراجعت للوراء بثلاثين عاما».
وبلهجة تشوبها المرارة خلص المحامي اليزيد للقول «بأن الأنظمة السياسية التي ما زالت تمارس مثل هذه التصفيات ضد معارضيها تكاد تعد الآن على أصابع يد واحدة: مادورو في فنزويلا، أردوغان في تركيا، كيم جونغ أون في كوريا، وبذلك تحصل موريتانيا على رتبة جديدة في درك التصنيف العالمي».
القدس العربي