لم يكن الرجل ليعود إلى وطن جريح حكم عليه فيه بالإقامة الجبرية لسنوات ، إلا لحب دفين ونية صادقة لتنقية الشأن العام.
كان في الخمسينيات من عمره مثقفا يتمتع براتب شهري كبير ويحظى باحترام نخبة بلده في الحكم والحركات السرية.
عاد مخلصا منقذا من ورطة عسكرة السياسة وفاز في أول انتخابات رئاسية بالاقتراع العام المباشر فتصدت له آلة التزوير واستولت على النتيجة لصالح غريمه؛ ثم سجنوه وفتتوا حزبه وسلطوا عليه الجواسيس في المسجد والمكتب والطائرة.
ضايقوا كل من ألقى عليه التحية وحاصروا الفنانة المعلومة بنت الميداح لأنها غنت له وانتخبها في مجلس الشيوخ.
ظل معظما لربه لم يترشح للبرلمان ولم يشارك في الحكومة الانتقالية، صُنع الوزراءُ على عينه وساكن الفقراء وأكل معهم وشرب، لأن مشروعه لهم يمر عبركرسي الرئاسة في موريتانيا و صناديق الاقتراع.
قبِل خصوم الأمس في صفوف حزبه وربت على أكتاف الذين كالوا له شتائم في الحملات الانتخابية.
ماتقرب منه شخص أو ظهر معه إلا صعد في الجانب الآخر تعيينا أو ترقيصا منذ أزيد من ربع قرن في بلاد الرحيل السرمدي.
عابد زاهد مارد يخشى إراقة الدماء ويدمن على دموع الخلوة، له حظ من سخاء ونصيب من أناقة ونفس طويل في مكابدة الصالح العام.
ينظر إليه القلقون في السلطة على أنه صمام أمان ويراه رفقاء دربه أيقونة.
في أول وآخر مناظرة تلفزيونية موريتانية بين شوطي الرئاسيات تحدث للموريتانيين بأمل ودعابة ولكن الماكينة الخفية أنفقت ثلاثة عشر مليار أوقية لإقصائه.
شيخ المطحونين وقائد الصابرين ورفيق المتبتلين، لا يتوانى عن قول رأيه ويشفق على كثير من أحوال بلده.
ساهم في التأسيس ويرى بعين العتب أجزاء من تراث جيله تُبدل وتُغير. وبعد انتصاف عقده السابع يرفض أن يتخلى عن مبادئه ونضالاته ويرفض عقد صفقات تخول له مراقصة الفشل المبتكر مرة أخرى.
يتحدث بحسانية أصيلة ومفاصلة شفيقة مجرورة مكرورة، ليس ببغاء ولا حرباء، ويصلي في المهرجانات.
لعله الرجل الموريتاني الوحيد الذي قضى ستة وعشرين سنة من عمره وهو يرفض العنف رغم تعرضه له، وهو أكبر مثال على أن الديمقراطية الموريتانية عليلة. اختلفنا معه أو اختلفنا إليه.
ليس معصوما ولا محرزا من الانتقادات لكن تاريخه النضالي وكعبه وأناقته ونصاعة الأجندا المقنعة التي يحمل بين جنبيه وعلى جبينه، تُفقد ذكره بسوء صفة الكتابة.