بعد ربع قرن من القطيعة مع الفرشاة والكانفاس، منشغلة بأعمال النسيج “Tapestry” أحيانا وتقنية اللصق “Collage” أحيانا أخرى، تعود الفنانة برجيت داداه للرسم من جديد من الباب الذي دخلت منه لأول مرة كفنانة وهو تقنية المنمنمات “Miniature” التي أحبتها وتأثرت بها عن طريق والدها الدنماركي المحب لثقافة الشرق وفنونه وخصوصا الحضارة الفارسية وثرائها وعنايتها الخاصة بفن المنمنمات. تتمحور مجموعة المنمنمات التي عادت بها بريجيت لعالم الرسم من جديد حول النساء الموريتانيات إما في وضعيات جلوس أو إستلقاء أو شبه الاستلقاء المعروفة محليا “بتمرفيگ”. تظهر النسوة منهمكات في أنشطة وأجواء نسوية خالصة مثل ضرب الرمل أو تخضيب الحناء أو التجارة أو الأكل أو مجرد تناول أطراف الحديث تحت خيمة أو في فناء منزل. من زاوية المكان تتفاوت اللوحات بين الانتقال بين الفضائين البدوي تحت الخيمة والحضري أو شبه الحضري في مدينة بوتلميت، نواكشوط أو في الجنوب الموريتاني بمحاذاة الضفة.
نسوة في باحة منزل يتناولن الطعام
من ناحية الأسلوب يتميز أسلوب بريجيت بالبساطة والتركيز على اللون والشكل حيث ركزت في جميع اللوحات على الاستخدام القوي للألوان مثل الأحمر والبرتقالي والأزرق والأخضر مما يستحضر تأثر بريجيت بالمدرسة الحوشية أو الفوفية التي تعتمد تحريف الأشكال بتغيير أحجامها ونسبها وألوانها التقليدية وهم ما يبدو بارزا للعيان من خلال التضخيم المتعمد لأشكال النساء سواء في وضعية جلوس أو استلقاء وهم ما تعترف بريجيت أنه تأثر مباشر بأسلوب المدرسة اللاتينية وخصوصا برائد هذا الأسلوب الكولومبي فرناندو بوتيرو إضافة لكونه احتفاء بأنماط ومعايير جمالية مختلفة عن أنماط الجمال الغربية التي تعتبر النحافة نمطها المفضل خصوصا عند النساء.
إضافة للأسلوب تحتفي هذه الرسومات بنمط الحياة الموريتاني الذي تطبعه البساطة والبطيء ويظهر ذالك من خلال استعراض الناس وهم منهمكون في أنشطتهم الاعتيادية اليومية كبائعات الخضار في “مسيد المغرب” أو باعة الصناعات التقليدية أو مجموعة نسوة في لمة لتناول الغداء في باحة منزل. تعتبر بريجيت الحضور المركزي للنساء في مجموعتها نقدا اجتماعيا للمفارقة التي تلاحظها في سياسات الفصل بين المرأة والرجل في المدينة مقابل اختلاطهما الطبيعي في البادية. في هذا الصدد تستدعي بريجيت الذاكرة والحنين للماضي من خلال استحضارها لنموذج الحياة التي كانت بريجيت شاهدة على ميلاده في موريتانيا ما بعد الاستقلال وحتى بداية التسعينات والذي اندثر لعوامل عدة لا تحبذ بريجيت الحديث عنها.
من الملفت للانتباه في المجموعة كلها غياب بريجيت التي تعيش نمط حياة غربي، رغم كونها تعيش في البلد لأزيد من أربعين سنة، عن مجمل الأعمال التي ترسمها سواء في هذه المجموعة أو في أعمال النسيج السابقة والسبب يعود لرغبة برجيت كما تقول لعزل نفسها عن موضوع مراقبتها أو اشتغالها الفني وهو ما يتيح لها أيضا أخذ مسافة شخصية محايدة من الشخوص والأنشظة التي ينخرطون فيها. هذا الغياب يعكس أيضا شعورا متناقضا بالعزلة والانتماء لمجتمع لم يستطع حتى الآن أن يرى في برجيت غير “نصرانية” لا تزال تعيش وتفتخر بهويتها الاسكندنافية رغم محاولتها الاندماج ولو جزئيا في بلد تزوجت وأنجبت وعاشت فيه لما يقارب نصف قرن من الزمن.
مولودة في الدنمارك متزوجة من الزعيم السياسي المعارض أحمد ولد داداه. تعيش بيرجيت داداه وتعمل في نواكشوط. تستوعب أعمالها النسيجية عناصر الثقافة البدوية من خلال استحضار الرموز والصور الموجودة في المدن والبوادي الموريتانية إضافة للتراث والحرف التقليدية. تحضر ثقافة وتراث الشرق الأوسط وتأثير المدرسة الحوشية أو الفوفية بقوة في أعمالها الفنية الزاخرة بالألوان والمنسوجات. يشكل انتقائها للمنسوجات التي تجمعها بتروي من شتى أصقاع الدنيا عاملا حاسما في أعمالها الإبداعية. تعمل برجيت على سلسلة أعمال مرة واحدة وتكون النتيجة أحيانا أعمالا تصويرية وأحيانا تجريدية: سجاد صلاة، مناظر طبيعية، طقوس، رموز، مدن موريتانية، مساجد وقصور شرقية. في لوحاتها أيضا تستكشف بريجيت داداه نفس المواضيع باستخدام تقنيات مختلطة.
الحاج ولد ابراهيم