لم تشهد القارة الافريقية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية والحرب الباردة التي تبعتها شبيها لما تشهده اليوم من حضور عسكري أجنبي كبير للغاية.
وأحصت دراسات قيم بها في المجال قرابة ثلاثين قاعدة عسكرية دائمة أو مؤقتة في عدد من المواقع داخل القارة السمراء.
ويسوغ هذا الحضور على المستويات الرسمية بأنه جاء لتحقيق هدف وحيد هو محاربة الإرهاب والقرصنة البحرية في القرن الافريقي ومؤخرا في خليج غينيا. غير أن هذا الحضور يخفي وراءه أمرا آخر هو تنافس القوى الغربية والدول الصاعدة على التأثير وعلى التحكم في ممرات وخيرات القارة.
ويشكل حضور تنظيم القاعدة واستمرار نشاط حركة بوكو حرام، أبرز تهديد للاستقرار في المنطقة الساحلية وفي منطقة بحيرة التشاد، مع ما يحمله في طياته، من كوارث بينها الإرهاب وتهريب المخدرات والاتجار بالبشر والهجرة السرية.
وبالإضافة إلى الجانب الأمني، فإن عدم الاستقرار الذي يطبع منطقة الساحل يطرح مشكلات اقتصادية على هذه المنطقة الثرية بالموارد المعدنية والطاقوية مثل النفط والغاز والذهب واليورانيوم والماس والفوسفات والبوكسيت والمغنيزيوم.
ويسيل هذا الثراء لعاب القوى العالمية المتغلبة، حيث بدأ الصراع يحتدم في هذا النطاق، بين الولايات المتحدة وفرنسا وهو ما يفسر إقامتهما للقواعد العسكرية التي لها مهمة أساسية واحدة هي حماية تموينهما بالمواد المعدنية والطاقوية، حسبما يؤكد محللون عديدون.
ومما جذب الحضور العسكري، أيضا ظاهرة القرصنة في القرن الافريقي الذي يعتبر الممر التجاري الدولي الرابط بين آسيا وافريقيا وأوروبا.
واستدعى نشاط القرصنة تشكيل فريق الاتصال في عرض السواحل الصومالية، كما استدعى نشر القوة البحرية الأوروبية، وإنشاء قواعد عسكرية بحرية بينها القاعدة العسكرية البحرية الفرنسية في جيبوتي والقاعدة العسكرية التركية في الصومال.
وامتدت ظاهرة القرصنة البحرية نحو سواحل غينيا في افريقيا الغربية وازداد نشاطها كثيرا منذ 2012.
وأكد تقرير لمؤسسة هرث فتيور «أن الهجوم العسكري على البواخر العابرة من خليج غينيا، ارتفع بنسبة 76 في المئة ما بين عامي 2015 و2016 في منطقة خليج غينيا الثرية بالموارد الطاقوية والتي تحولت إلى بؤرة للقرصنة البحرية في افريقيا.
ولوحظ الحضور العسكري الصيني أيضا منذ 2009 بعد أن تحولت الصين إلى الشريك التجاري الأول لافريقيا، بارتفاع مبادلاتها التجارية مع القارة السمراء عام 2016 إلى 149.2 مليار دولار (56.9 مليار دولار من الواردات، و92.3 مليار دولار من الصادرات).
ولحماية مصالحها الحيوية، أنشأت الصين عام 2017 أول قاعدة عسكرية لها في جيبوتي قريبا من قـــاعدة لمونيي العسكرية الأمريكية.
وينتظر أن تستقبل القاعدة الصينية 10 آلاف جندي في أفق 2026 التاريخ المحدد لاستكمال الصين إرساءها لقاعدتها العسكرية المتقدمة في افريقيا. وينضاف للحضور العسكري الصيني، حضور عسكري لدول صاعدة بينها الهند التي ارتفعت مبادلاتها التجارية مع دول افريقيا من مليار دولار عام 1995 إلى 75 مليار دولار عام 2015 حسب ما أكده تقرير للبنك الافريقي للتنمية.
وقد أنشأت حكومة دلهي مركزا للإنصات شمال مدغشقر عام 2007 لمتابعة حركة البواخر في المحيط الهندي ولمراقبة الاتصالات البحرية.
وللدب الروسي هو الآخر حضوره ومصالحه في القارة الافريقية، فقد قررت موسكو أن تضع تنشيط التبادل التجاري مع افريقيا أولوية في سياستها الخارجية بعد أن لاحظت ضعف مبادلاتها مع دول القارة.
وعززت الحكومة الروسية تعاونها العسكري مع دول بينها الجزائر ومصر وأنغولا وأوغندا وزيمبابوي وجنوب افريقيا واثيوبيا والموزامبيق، وذلك بعد سلمت معدات عسكرية لتجهيز كتيبتين في جمهورية وسط افريقيا قوامهما (1300 رجل) وابتعثت إلى حكومة بانغي 200 مرشد عسكري من القوات الروسية الخاصة.
ويعود الحضور العسكري الخارجي المكثف في افريقيا لضعف الدول الافريقية ولهشاشة جيوش القارة؛ وباستثناء الدول القليلة التي تسعى لتأمين نفسها بوسائلها الخاصة والتي من بينها مصر التي تواجه حرب عصابات في سيناء، والجزائر التي يتفاعل الإرهاب في حدودها الجنوبية، والكمرون ونيجريا اللتان تواجهان حركة بوكو حرام، فإن هناك بلدانا مثل مالي والنيجر ووسط افريقيا تحتاج للدعم العسكري الخارجي لتأمين ذاتها.
وحتى الدول التي تجمعت في منظمات أمنية ودفاعية لم تتمكن لأسباب مالية من تنفيذ خططها العسكرية المشتركة، وأبرز مثال على ذلك مجموعة دول الساحل الخمس التي تأخرت انطلاقة قوتها العسكرية المشتركة لعدم وجود التمويلات الكافية.
واضطرت دول المجموعة لمد يد المساعدة لبلدان العالم للحصول على مبلغ 414 مليون أورو لازم لتجهيز قوتها المشتركة.
ولفرنسا حضورها العسكري الكبير في دول افريقية بينها موريتانيا، حيث ترابط كتيبة عسكرية مجهولة العدد في أطار شمال موريتانيا تابعة لقيادة العمليات الفرنسية الخاصة، ولها حضورها في مــالي بقاعدة قوامها 1700 رجل، وفي وسط افريقيا بـ 1200 رجل، وفي خليج غينيا عبر قاعدتها البحرية التي أسستها عام 1990.
وللولايات المتحدة حضورها من قاعدة «أفريكوم» المنتشرة في بوركينافاسو والكمرون، وجيبوتي، والغابون، وغانا، وكينيا، والنيجر، وأوغندا، وجمهورية وسط افريقيا، والكونغو، والسنغال، والصومال، وجنوب السودان، والتشاد؛ وكشفت صحيفة «واشنطن بوست» مؤخرا عن حضور عسكري أمريكي في مصر وأريتريا وتونس وإثيوبيا. أما المملكة المتحدة فلها، هي الأخرى، حضورها العسكري في كينيا ومالي؛ وللهند حضورها العسكري في مدغشقر، ولألمانيا حضورها العسكري في النيجر ومالي ولتركيا حضورها في الصومال، ولليابان حضورها في جيبوتي ولإيطاليا حضورها العسكري في ليبيا والنيجر، ولبلجيكا حضورها العسكري في مالي، وروسيا هي الأخرى حاضرة عسكريا في جمهورية وسط إفريقيا.
بهذه المعلومات يتضح أن القارة الافريقية شبه محتلة من طرف الدول الجشعة للموارد الطاقوية والمعدنية؛ فإذا كانت هذه الدول قد نالت استقلالها فإن قوى الاستعمار الغربي قد خرجت من باب لتدخل من نافذة المصالح ولتحكم سيطرتها على دول افريقيا مستغلة هشاشة أنظمتها وعوز وفقر شعوبها.
عبد الله مولود
نواكشوط ـ «القدس العربي»