بدأت ملامح النزال السياسي في الانتخابات الرئاسية الموريتانية المقبلة في 2019 تتضح مع توالي إعلانات الترشح من طرف الأغلبية الرئاسية والمعارضة على حد سواء.
فبعد إعلان ترشح وزير الدفاع وقائد الأركان سابقًا، محمد ولد الغزواني، ودعم الأغلبية الرئاسية له، أعلن رئيس الوزراء الأسبق، سيدي محمد ولد بوبكر، ترشحه للسباق الرئاسي بدعم طيفٍ واسع من المعارضة.
وقبل ذلك، أعلن زعيم حركة “إيرا“ المدافعة عن حقوق الأرقاء السابقين، بيرام ولد أعبيد، ترشحه، وأخيرًا أعلن زعيم اتحاد قوى التقدم، محمد ولد مولود، ترشحه بدعم من حزبه وحزبٍ آخر من المعارضة التاريخية.
ويبدو الزخم الذي رافق ترشح ولد الغزواني وولد بوبكر الأهم بين المرشحين الأربعة؛ نظرًا للدعم الذي يحظى به الأول من الرئيس المنتهية ولايته، محمد ولد عبدالعزيز، وحزبه الحاكم، الاتحاد من أجل الجمهورية، ولاصطفاف طيف هام من المعارضة إلى جانب الثاني.
سياق خاص
دخلت موريتانيا التعددية السياسية بإقرار دستور العشرين تموز/يوليو 1991، ولكنها لم تعرف التناوب السياسي إلا في ختام مرحلة انتقالية أشرف عليها الجيش؛ إثر الإطاحة بنظام معاوية ولد الطايع في صيف 2005، وتوجت بانتخاباتٍ رئاسية جرت في آذار/مارس 2007، وفاز بها سيدي محمد ولد الشيخ عبدالله، الذي لم يدم حكمه أكثر من سنة ونصف، إذ أطاح به الجيش في انقلابٍ عسكري صيف 2008.
وفي ضوء ذلك، فإن الانتخابات الرئاسية، الصيف القادم، تبدو مفصلية في تحديد مسار الديمقراطية الموريتانية وترسيخها سيما مع امتناع الرئيس، محمد ولد عبدالعزيز، عن الترشح وإصداره بيانًا في هذا الشأن كان له دورٌ حاسم في “إجهاض“ مساعٍ قادها برلمانيون مؤيدون له لتعديل مقتضيات الدستور التي تحدد عدد المأموريات الرئاسية في اثنتين، وهي مقتضيات تُعد أهم المكاسب المحققة خلال المرحلة الانتقالية (2005-2007).
إلا أنَّ الإشكال يبدو أعمق من وجهة نظر مراقبين، فالرئيس ولد عبدالعزيز يدعم رفيقه في الجيش، وزير الدفاع وقائد الأركان، محمد ولد الغزواني.
ويرى أحمد التليمدي، مدير مركز الصحراء للدراسات، أنَّ “كل المؤشرات توحي بهذا التحول الإيجابي“، لكنه يستدرك بأنَّ ذلك سيترتب على قدرة المرشح في “أخذ مسافة من النظام الحالي“، أي أن لا يكون استمرارًا له.
ويرى الأستاذ الجامعي، محمد يحيى أحمدناه، أنَّ “عدم ترشح ولد عبدالعزيز لمأمورية ثالثة يعكس بذاته مستوى من تطور الممارسة الديمقراطية، لكن تقدير مدى تأثير هذا التطور يتوقف على المنحى الذي ستتخذه الأمور“.
وتبدو قدرة الغزواني على المناورة محدودة، كما يرى التليميدي، “فمن خلال اتجاه الأحداث لحد الساعة فإن غزواني سيبني على إيجابيات عشرية عزيز ويقدم وعودًا بإنجازات في مجالات أخرى، وهو ما أتوقع أنه أغضب بعض مقربي الرئيس ولد عبدالعزيز وبدأوا في إقناعه بأن غزواني بدأ من خلال خطاب ترشحه التنكر له“.
وفي ضوء ذلك، سرت أخبار عن إمكانية ترشح الوزير الأول السابق، مولاي ولد محمد الأغظف، المقرب هو الآخر من ولد عبدالعزيز، لكن ولد محمد الأغظف، أعلن دعمه للغزواني.
صحيح أن فوز سيدي محمد ولد بوبكر، سيعني تحقيقَ تناوبٍ صريح مع أنه يحيل على إشكال آخر، فالرجل ظل لسنواتٍ طويلة أحد أركان نظام ولد الطايع الذي يعد، ومعه نظام ولد عبدالعزيز كذلك، استمرارًا للنظام العسكري الذي يحكم البلاد منذ صيف 1978، أما المرشحان الآخران، بيرام وولد مولود، فإن حظوظهما لا تبدو وافرة في الفوز، وإن كان هذا الحكم ما يزال مبكرًا على اعتبار أننا على بعد ثلاثة أشهر من الاقتراع.
نقاط ضعف ونقاط قوة
يعتقد التليميدي، أن نقاط قوة المرشح الغزواني “تعود لاصطفاف المؤسسة العسكرية خلفه في بلد ما زالت هي الممسكة بزمام أموره منذ 1978، كما يعود لدعم الوجهاء والقبائل التي تأثرت كثيرًا في فترة عشرية الرئيس المنصرف“.
لكن دعم النظام للغزواني، على أهميته، يحرمه من التقارب مع قوى أخرى لا تمانع في دعمه، ولكنها تشترط أخذه مسافة من نظام ولد عبدالعزيز، وهنا مكمن إحدى المشاكل الكبرى التي يواجهها الرجل، فـهو لا يُحقق “إجماعًا“ مطلقًا داخل الأغلبية، وهو ما عبر عنه عدم حماس بعض رموز الأغلبية في الانخراط في حملة التعبئة لصالح المرشح، بل إن بعض أعضاء الحزب الحاكم والأغلبية الرئاسية والوسط الاجتماعي للرئيس ولد عبدالعزيز، أعلنوا دعمهم لخصمه ولد بوبكر، وفي الآن نفسه، فإنَّ دعم النظام يحرمه من تأييد طيف سياسي وانتخابي واسع.
وعلى غرار منافسه غزواني، فإن لولد بوبكر هو الآخر نقاط ضعفه، وأولها تحميله نصيبًا من تركة نظام ولد الطايع خاصة الفساد المالي والإداري الذي استشرى في عهده، والتضييق على الحريات العامة وسجن المعارضين وحل الأحزاب السياسية، فضلًا عن إقامة علاقات دبلوماسية مع إسرائيل ظلت محل رفض شعبي عارم.
ويرى التليميدي أن لولد بوبكر نقاط قوة “تتمثل في اصطفاف بعض الأغلبية والشخصيات التي رافقته خلال مسيرته في الأنظمة السابقة وطيف من المعارضة وخاصة حزب ‘تواصل’ ذا المرجعية الإسلامية“.
مكاسب وهواجس
بغض النظر عن الفائز في رئاسة البلاد الصيف القادم، فإنها تعد مكسبًا هامًا للبناء الديمقراطي في موريتانيا، فلأول مرة أنهى رئيس مأموريتين رئاسيتين بسلام في بلد عانى كثيرًا من الانقلابات العسكرية وما يترتب عليها من عدم الاستقرار السياسي، كما أنَّ امتثال الرئيس لمقتضيات الدستور إسهام جوهري في البناء الديمقراطي وترسيخ التناوب السياسي الذي هو أحد ركائز هذا البناء.
ومع ذلك، يرى مراقبون أن هواجس مشروعة تبرز من تكريس ثقافة “التناوب“ على الطريقة العسكرية كبديل للتناوب السياسي المعبر عن تنافس مشاريع وخياراتٍ سياسية وتنموية ومجتمعية يُشكل تنوعها وتناوبها، عبر الزمن، تراكمًا حيويًا في البناء المؤسسي للدولة وضمان استمراريتها وتطورها.
ولن يكون فوز الغزواني له معنى، فيما يتصل بالبناء الديمقراطي والتطور السياسي للدولة، إلا إذا اعتمد منهج عمل ومقاربة سياسية وتنموية واقتصادية مختلفة تميزه، أما إذا سار في اتجاه أن يكون “استمرارًا للنهج“، كما تروج أوساط الأغلبية الرئاسية، فإنَّ فوزه سيكون انتكاسة للتطور الديمقراطي وتأسيسًا لنمط جديد من “التناوب“ جوهره وغايته وأد الديمقراطية واستبدالها بأنماطٍ من تداول السلطة لغاية وحيدة، هي الاحتفاظ بها في دائرةٍ معينة، في الحالة الموريتانية هي المؤسسة العسكرية، يقول المراقبون.