في عالم المال والأعمال، يطلق مصطلح "البورجوازية الورعة" أو "الورع البورجوازي" على حالة إشباع نفسية دينية واجتماعية، يهرب إليها بعض كبار الأثرياء والمرابين وملاك نوادي القمار، ممن يقعون في مرحلة من حياتهم تحت طائلة الندم على ما اقترفوه من آثام ومخالفات اقتصادية، أيام سباق جمع المال وتحصيله من حلاله وحرامه، فيفزعون إلى إنفاق بعض ما في أيديهم على بعض أعمال الخير والنفع العام، تخفيفا لوخز الضمير واللوم النفسي؛ ولأن بواعث تلك الحالة تنتقل من بيئة إلى أخرى، قد هبطت واستوطنت بيننا، مع طفرة الفساد، وانتشار القمار والمتاجرة بالممنوع، والتهرب الضريبي والاختلاس والرشاوى، وغير ذلك من وسائل الكسب الحرام التي خاض فيها بعض الأغنياء منا وتقلبوا فيها ظهرا لبطن؛
أبرز تكريس لظاهرة الورع البورجوازي، في بلادنا، تواجهك في مدننا الكبرى، بحيث لا تكاد تخطئها العين، وهي تتمثل في انتشارٍ لافتٍ لمساجد صغيرة وجميلة، مقامة على مستطيلاتٍ أو مربعاتٍ صغيرة ومتوسطة، يتم اقتطاعها من المساحات الأصلية لبعض القصور والفلل والمجمعات السكنية الراقية، في المناطق المخملية من تفرغ زينة وأخواتها؛ وتكون في الغالب الأعم، مجهزة تجهيزا كاملا وراقيا، بما في ذلك نظام الصوت والإضاءة ومخافق الرياح، والغالب أن تلحق بها مرافق الطهاة الضرورية؛ ومن مناراتها يرفع الأذان وفيها تقام الصلاة، والجمعة أحيانا؛ والغالب أن يؤم الناس فيها معلمو القرآن الذين يقدمون دروسا خصوصية لأطفال المنازل المجاورة؛
أسوأ ما في الأمر أن تلك المساجد قد تتعدد وتتقارب، في مربع سكني واحد، فتختلط أصوات مكبراتها التي تكون مبحوحة غالبا، لافتقارها إلى الصيانة الدورية؛ وربما استضاف معها المربع السكني نفسه واحدة أو أكثر من قاعات الطبل والزمر والنفخ المنتشرة في تلك الأحياء، فتختلط القراءة والتكبيرات، وشدو المغنين والمغنيات، فلا يدري المصلي كم صلى، ولا المغني ما غنى؛ يضاف إلى ذلك أن معظم رواد تلك المساجد الصغيرة، بمن فيهم أئمتها ومؤذنوها، لا شأن لهم بآداب المساجد، كأنهم لم يسمعوا بها قط؛ فهي غائبة دخولا، وخروجا، وتحية، وتسوية، وغضا، وكفا؛ ولأنه لا سلطة لأحد على المكان، ترى الجميع يتخذونها مجالس للسلام والكلام والعناق والقصص واللطائف والبيع والشراء؛
في مساجد الورع البورجوازي تلك، لا يرفع الأذان، إن رفع، من أجل الإعلام بدخول وقت الصلاة ، كما هي وظيفة الأذان في أدبيات الفقهاء، بل يكون الأذان فيها، في أحسن الحالات، قبيل الإقامة مباشرة، والسبب بسيط، فمثل تلك المساجد تفتقد الطاقم الاعتيادي في المساجد، المكون في حدوده الدنيا، عادة، من إمام راتب ونائب له، يخلفه عند الحاجة، ومؤذن ومساعده، بالإضافة إلى عامل أو عاملي نظافة يتناوبان على مهمتهما؛ وبذلك تبقى وظائف هذا النوع من المساجد، ميدان سباق في الخيرات، لا يكثر الزحام على باب حلبته؛ والغالب - مع استثناءات قليلة - أن توكل أهم تلك الوظائف وهي الإمامة، إلى من ليس مؤهلا لها بما يكفي، تجويدا وقياما بالأركان؛
معلم الأطفال الذي تسند إليه – غالبا - إمامة مساجد أهل الدثور تلك، يكون في الأغلب الأعم، أحد الشباب من أعماق البادية، أو من أطراف المدينة النائية، وقد تهيأ له حفظ القرآن الكريم، من قبل، ثم هبط المدينة تحت وطأة الحاجة، بحثا عن عمل وحياة أفضل، لكن فرصة العمل لا تسرع إلى كل الباحثين عنها، بسبب عوامل عديدة، منها نقص الخبرة وافتقاد الدربة، ومنها احتقار البدوي بطبعه للمهن الحرة وأهلها؛ ومع ضغط المسغبة والمتربة، وضيق دائرة الخيارات، يقرر صاحبنا تسويق البضاعة الثمينة - والوحيدة - التي بحوزته، فيغشى المساكن والبيوت، عارضا على أهلها تعليم أطفالهم القرآن العظيم، خلال أو قات فراغهم، مقابل أجر معلوم؛
ذلك في الغالب الأعم؛ أما الاستثناءات فهي قليلة؛ وأبرزها أن يتفرغ لوظائف المسجد، من مساجد الورع البورجوازي، فريق كامل ومؤهل من الناس، وبرواتب مجزية، يدفعها بسخاء رجل الأعمال الذي يرجع إليه الفضل في تخصيص أمتار من مساحة قصره للمسجد، وفي الإنفاق على تشييده وتجهيزه بكرم؛ وفي هذه الحالة فإنه من الغالب أن يحجز ذلك التاجر لنفسه وربما للمقربين منه من الرجال، آباء كانوا، أو إخوة، أو أبناء، ممن يساكنونه البيت نفسه، يحجز منطقة دائمة في الصف الأول، مما يلي الإمام؛ وفي هذه الحالة تكون إقامة الصلاة رهنا بحضور المعني، أو بتأكيد من ينطق باسمه أنه خارج البيت، وعندئذ تقام الصلاة؛ لكن مثل هذه الظاهرة نادرة جدا.
غير هذا النوع النادر من الأئمة، وهو الغالب، يكون حافظا للقرآن، نصا، دون خبرة كبيرة بحق الأداء الصحيح، ومن ثم تكثر عنده أخطاء الأداء، وأغلبها يتعلق بمخارج الحروف، وأحكام الغنة، وأنواع المد، وأحكام الوقف والوصل، والجمع بين القراءتين فأكثر؛ وترد تلك العيوب والأخطاء في أم الكتاب وغيرها من سور القرآن، كما تقع في الإقامة والأذان، وقفا على متحرك، ومدا بلا مبرر ووصلا موهما خلاف المعنى؛ والمشكلة أنك إذا نبهت المعني أو قدمت له النصح أو رمت تقويمه فيما يقرأ، وجدته لا يحب الناصحين، بل ربما اشتاط غضبا، وأخذته العزة بالإثم؛ ثم تجده في أقرب صلاة جهرية، يكرر الأخطاء نفسها، والتي تتحول بإصراره عليها إلى خطيئات؛
أخطاء الأداء في الصلاة، وخاصة في فاتحة الكتاب، هي خطيئات بلا شك، والكل يعرف ذلك ويردده، وإصلاحك للقارئ إن كان الخطأ مخلا، يندرج بين الواجبات؛ لكن معلمي الصبيان الذين يتبرعون بالإمامة في تلك المساجد، لا ينظرون إلى التقويم والإصلاح، إلا من زاوية قدحية، تفتحها نفسية متحفزة على الدوام لتأويل كل إصلاح بانه تحامل مقصود. ويدمن أولئك الأئمة أخطاء أربعة كبرى، في قراءتهم الفاتحة؛ أولها وثانيها في لفظ الرحمن والرحيم، حيث تتحول شدة الراء إلى تكرار له في اللفظين؛ وأما الثالثة فهي تشديد الياء المفتوحة التي تأتي بعد الكاف المكسورة في" ملكِ يَوم الدين"؛ ورابعا وأخيرا نطق الواو المفتوحة مشددة بعد الدال المضمومة في "نعبُدُ وَإياك".
أما عندما يغيب الإمام، وهو كثيرا ما يغيب، لأنه في الأغلب متطوع، بدون راتب معلوم، مما يجعله في حال بحث دائم عن فرصة توظيف؛ فينشغل كثيرا بتحضير المشاركة فيما خفت شروط التقدم إليه من مسابقات، في القطاع العام، أو في المؤسسات المشغلة الأخرى، وهو بين هذا وذاك، قد يعمل بانتظام أو مياومة مع آخرين، في بعض الدكاكين والمعارض والبقالات والورشات؛ وربما عاد الإمام إلى مضارب أهله الأصلية في المناسبات، وأطال المكث، وخاصة عندما يتعلق الأمر بحملات انتشار وانتساب حزبية أو انتخابية محلية أو وطنية؛ والحق أن الإمام كلما غاب ترك خلفه فراغا كبيرا؛
ولأنه لا خلف للإمام في تلك المساجد الصغيرة الملحقة بالقصور والمساكن الفخمة، يضطر من يدمنون الصلاة فيها، خلال غيبة الإمام، يضطرون للصلاة خلف أئمة ناقصي الكفاءة، وليسوا من اختيارهم، فكل من قبل التصدر للمحراب قاد الناس في صلاتهم؛ و – أحيانا - يكون المتصدر من أصحاب الكفاءة والمعرفة، لكن ذلك هو النادر، أما الأغلب فهو أن يكون من أصحاب الجرأة والاقدام والاقتحام؛ فيدخل المحراب، غير هياب ولا وجل، فيصعِّد ويصوِّب ويهرف ما لا يعرف؛ وكم دخل تلك المحاريب الصغيرة الجميلة، من غرباء الأطوار، ومن عوراء وعجفاء ومتردية ونطيحة!