لم تخمد لحد مساء اليوم الأحد نيران الجدل الفقهي المستعر منذ أيام عبر الفتاوى والبيانات والتدوينات والذي أشعله قبول مجموعة من العلماء والأئمة، الأسبوع الماضي، لتوبة محمد الشيخ ولد امخيطير ساب الرسول إثر اجتماع عقدوه حول هذه القضية الشائكة مع الرئيس الموريتاني المنصرف محمد ولد عبد العزيز.
وينقسم العلماء الموريتانيون من خلال استقراء للآراء المطروحة، حول هذه القضية إلى فريقين أحدهما يوجب وفقا لمشهور المذهب المالكي المتبع في موريتانيا، قتل الشاب ساب الرسول حدا، ويؤكد أن توبة الساب لا تسقط القتل عنه، وفريق آخر يرى أن توبة الشاب ممكنة وأنها تدرأ عنه القتل.
وأكد الشيخ محمد الحسن ولد الددو وهو من أبرز علماء موريتانيا وأكثرهم تنورا في الوقت الراهن “أن جمهور العلماء وأغلب مذاهب الفقهاء يرى أن من سب النبي صلى الله عليه وسلم يقتل وﻻ تقبل توبته في الدنيا، سدا للذريعة وانتصارا للجناب العظيم على صاحبه أفضل الصلاة وأكمل التسليم”، مضيفا قوله “وأنا مع هذا الرأي في هذا الوقت ﻻ ﻷنه رأي الجمهور فحسب، بل مع ذلك للحاجة إلى الوقوف في وجه موجة اﻹلحاد التي تجتاح الشباب، وتغذيها وترعاها جهات واتجاهات معلومة، مع العلم أن القائلين بهذا يرون أنه تنفعه توبته في اﻵخرة، إذا علم الله صدقها”.
وأضاف الشيخ الددو “أن القول بقتل الشاب وعدم قبول توبته وإن كان مذهب الجمهور فليس إجماعا ولا قريبا منه، فثمة طائفة من الفقهاء يرون أن الساب إذا تاب قبلت توبته؛ وهذا معلوم لكل من نظر في كتب الفقهاء”.
“وانطلاقا من هذا، يضيف الشيخ الددو، ينبغي أن نفرق بين نوعين من المدافعين المحامين في هذه القضية: فهناك من يدافعون عن المجرم انطلاقا من حرية التعبير وحقوق الإنسان المزعومة ونحو ذلك، فهؤﻻء ممن يوادون من حاد الله ورسوله، ولن تجدهم مؤمنين، كما قال الله تعالى “ﻻ تجد قوما يؤمنون بالله واليوم اﻵخر يوادون من حاد الله ورسوله”، وهناك من يرون قببول توبة الساب، إن صحت دعواها، انطلاقا من رأي فقهي، ولهم فيه سلف من أجلاء الفقهاء قديما وحديثا”.
ومن الآراء التي لاقت تفاعلا واسعا ما كتبه القيادي الإسلامي البارز محمد جميل منصور تحت عنوان “على هامش قضية ولد امخيطير”، وأكد فيه “أن هذه القضية أبانت خصوصا في مراحلها الأولى عن رصيد واسع وصادق من حب النبي صلى الله عليه وسلم لدى الشعب الموريتاني مهما كانت تصرفات بعض موظفي هذا الرصيد مثيرة للأسئلة والشبه، وقد انتهت الأجواء المعبرة عن هذا الرصيد إلى مستوى مقدر من الردع المعنوي ثم القانوني لا شك سيترك آثاره مستقبلا ويجعل الإقدام على الإساءة صعبا مهما كانت إغراءات التآشر والحماية”.
وقال “صاحب هذه القضية من بدايتها خلل بين وازدواجية مناقضة للمصداقية، ففي حين أخذت إساءة محمد الشيخ مداها على المستويات كلها الشعبي والاعلامي والرسمي غيبت إساءات آخرين وأخريات بعضها كان أشد وأفظع ولم يجد كثيرون، والمؤشرات تدعمهم، تفسيرا لذلك، سوى الانتماءات الفئوية والاجتماعية التي يستعصم بها هؤلاء في مجتمع مازال مختل البناء والميزان”.
“على هامش التداول في هذه المسألة، يضيف ولد منصور، تكرر على ألسن عديدين فقهاء ومسؤولين، مرجعية مشهور المذهب المالكي في قوانين البلاد وكان اعتماده حاضرا في السجال حول هذه المسألة”.
وتابع “أيها الأعزة، لا يمكن أن تتأسس دولة حديثة على فقه مذهبي واحد لا مشهوره ولا مغموره ولا شاذه، فالقوانين في دولة إسلامية معاصرة خصوصا في المجالات الجنائية والسياسية والدبلوماسية والمالية تتأسس على الثوابت والكليات الشرعية الملزمة، وتستفيد من التراث الفقهي والقانوني للمسلمين وفي الصدارة منه في محيط كمحيطنا مذهب الإمام مالك لثرائه وسعة قواعده، وتتفاعل مع الثقافة القانونية المعاصرة وتستحضر خصوصيات المرحلة وإكراهات العصر”.
وأضاف “ينبغي اعتبار هذا الملف منتهيا ولا لزوم للاستمرار في إثارات في غير محلها، فقد بلغ مداه قضائيا وإعلاميا وترتب عليه ما يلزم من ردع معنوي وقانوني؛ علموا الناس سنة وسيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم وركزوا على جوانب العدل والإنصاف والمساواة والإيثار فيهما وهي كثيرة واسعة، وأوضحوا للناس كيف كان منهج النبي صلى الله عليه عابرا للانتماءات والعصبيات مؤسسا مجتمعا لا فضل فيه إلا بالتقوى وخدمة الناس”.
ويأتي الجدل الحالي تابعا لجدل شديد آخر سبق أن احتدم حول نفس الموضوع، ساهم فيه المفكر الإسلامي المجدد محمد المختار الشنقيطي بمقال بعنوان “التطاول على مقام النبوَّة.. بين كسب الألباب وقطع الرقاب” ورد عليه الفقيه الموريتاني البارز محمد بن بتار بمقال آخر عنوانه “ملاحظات على تغريدات الشنقيطي في شأن المرتد”.
وأكد الشنقيطي على أن “أسوأ رسالة يوجهها المسلمون إلى العالم اليوم من منظور السياسة الشرعية- هي قتل المرتد أو المتطاول على مقام النبوة، لما في ذلك من الإيحاء بأن الناس متمسكون بالإسلام خوفا من قطع رقابهم، لا اقتناعا بأنه دين الحق”.
وتوصل الفقيه الشيخ ولد بتار لخلاصة مفادها “أن المرتد إذا كانت ردته بالإساءة إلى نبي مجمع على نبوته يقتل فورا سواء كان رجلا أو امرأة إجماعا ولا تقبل توبته عند الإمام مالك رضي الله عنه، وإذا كانت ردته بغير ذلك يسجن ويستتاب فإن تاب أفرج عنه وإن لم يتب فإن كان رجلا قتل إجماعا وإن كان امرأة قتلت عند الجمهور”.
هذا وكانت قضية ولد امخيطير قد انفجرت مستهل عام 2014، بعد أن نشر حينها مقالًا يُسيء للنبي محمد صلى الله عليه وسلم؛ أدى إلى موجة استنكار واسعة ومظاهرات غاضبة في المدن الموريتانية الرئيسية.
وفي مدينة نواذيبو، شمال البلاد، حيث يقيم ولد امخيطير اعتقلته الشرطة يوم الثاني يناير 2014، ودخل ملفه مسارا قضائيا طويلا قبل أن يصدر في حقه يوم التاسع نوفمبر 2017 حكم من محكمة الاستئناف بنواذيبو يقضي بسجنه عامين مع تغريمه.
ومع أن المفروض هو أن يطلق سراح المعني بعد استيفائه محكوميته، فقد استمر سجنه من طرف السلطات الإدارية وهو السجن الذي أكد الرئيس محمد ولد عبد العزيز يوم 20 يونيو الماضي، بأن الغرض منه هو تأمين ولد امخيطير.
وبعد أسابيع من تصريح الرئيس وبعد اجتماع عقده الرئيس مع العلماء، ظهر ولد امخيطير على التلفزيون الحكومي معلنا توبته أمام الرأي العام، ليشتعل بعد ذلك جدل فقهي ما تزال نيرانه موقدة حتى اليوم.