لن يحمّله أحد فوق طاقته، ولن يطلب منه اجتراح المعجزات، وفعل ما لا يقدر في الظرف الحالي على فعله. وسيندر جدا أن يوجد من يقول له إن واجبه يحتم عليه الذهاب فورا لإخماد كل، أو بعض الحرائق التي تشتعل على طول المساحة الممتدة من بنغازي إلى نواذيبو. فالكل يدرك وبلا أدنى شك أن ذلك الأمر ولعدة أسباب لم يعد ممكنا بالمرة، لأنه ليس بوسعه حتى لو أراد ذلك أن يصير رجلا خارقا.
لكن هل بالركون وراء جدران مكتبه في ضاحية أكدال في الرباط، أو بتمضية جزء كبير من وقته بين أهله في تونس، يكون الأمين العام لاتحاد المغرب العربي قادرا على إقناع المغاربيين كافة، بأنه يبذل بالفعل جهدا ولو محدودا في إخماد ألسنة النار التي تضطرم بقوة في ديارهم، وأنه يعمل ومن دون كلل أو ملل، وبأقصى طاقته ليلا ونهارا، لتقريب الدول المغاربية بعضها من بعض، وتحقيق الحلم المغاربي المنشود لشعوبها بالاتحاد؟
إن المنتظر والمطلوب منه بسيط للغاية، فإن لم تكن هناك قيود أو ضوابط مفروضة على حركته، تجعل من تنقله بحرية تامة داخل كل مناطق المغرب الكبير، أمرا غير ممكن، وتجبره على أن يكتفي مقابل ذلك بالذهاب فقط، ومن حين لآخر إلى قصور ومكاتب كبار المسؤولين في تلك الدول، أو حضور المناسبات المقامة في بعض الفنادق الفخمة، لإلقاء محاضرات، أو لحضور ندوات تهم الشأن المغاربي، فما الذي يمكن أن يمنعه إذن من أن يظهر وبالمثل في أماكن أخرى يرتادها عامة الناس، أو أن يكون قريبا من مواقع التوتر والاضطراب؟ إن الثابت هو أنه، وبغض النظر عن مواقفها منه، أو من الاتحاد الذي يرأسه، فإنه لن يكون معقولا، أبدا أن تقدم ليبيا أو تونس أو الجزائر أو المغرب أو موريتانيا، على التصرف معه على ذلك النحو الغريب والشاذ، فتغلق أبوابها في وجهه، وتحدد له لأسباب، أو لاعتبارات سياسية تخصها، مربعات مضبوطة يكون مجبرا على التحرك داخلها فحسب. وإن اعتبرنا أن استبعاد أمر مثل ذلك من تحصيل الحاصل، فلم لا يشاهد المغاربيون إذن أمين عام اتحادهم في أي نقطة من نقاط التوتر أو النزاع الكثيرة في منطقتهم، أو حتى في تلك التي توشك على أن تكون كذلك؟ لِمَ لم يروه في السابق مثلا في طرابلس، حين حصارها الطويل من ميليشيات حفتر؟ أو في شوارع الجزائر في الأيام التي كانت حبلى بالتقلبات والهزات، وأدت في مرحلة أولى إلى استقالة بوتفليقة؟ ثم لِمَ لم يشاهده أحد على الحدود المغربية الجزائرية، أو في أضعف الأيمان على الحدود التونسية الجزائرية، ولو حينما يحيي البلدان كل عام ذكرى شهداء ساقية سيدي يوسف، التي اختلطت فيها الدماء التونسية والجزائرية أثناء فترة الاستعمار الفرنسي؟ ولم لا يرونه الآن بالقرب من الحدود الموريتانية، وتحديدا في الكركارات، وقد أوشك ما حصل فيها قبل أسابيع قليلة، على أن يعصف بالهدوء الخادع في الصحراء، ويشعل حربا شعواء طاحنة بين المغرب والجزائر، كان اندلاعها سيدخل لا محالة المنطقة بأسرها في نفق مجهول؟ الواقع أنه لا أحد من المسؤولين المغاربيين خطر له، وللأسف الشديد، أن يطلب من الرجل الذي تقلد أعلى مسؤولية في الهيئة الإقليمية الوحيدة في الشمال الافريقي، ونأى بنفسه منذ البداية عن أي انخراط مباشر في حل أي مشكل، أو أزمة من أزماته العويصة، أن يفعل ذلك، ولا أحد منهم تساءل أيضا عن سر غيابه الملحوظ عن الساحة المغاربية، اللهم باستثناء حضوره بعض المؤتمرات والندوات، أو قيامه بعدد محدود من اللقاءات الإعلامية، في وقت تمر فيه الدول الخمس بوضع صعب وحساس.
الطيب البكوش لا يشكو من تجاهل أكبر دولتين مغاربيتين له فحسب، بل حتى من فقدان الدعم المفترض من بلده تونس
والأغرب من ذلك كله انه حتى في القضية الصحراوية، وهي المعطل الأكبر للاتحاد، فإن كلا الطرفين المغربي والجزائري، لا يزالان يتنافسان بحدة على كسب أصوات الدول الافريقية، وربما العربية بدرجة أقل، وحشد تأييدها لرؤية وتصور كل واحد منهما لتلك القضية، لكن من الواضح أن لا أحد منهما يعول أو يسعى لانتزاع موقف مغاربي، ولو كان شكليا يمكن أن يعزز به رصيده الدبلوماسي، أو يعتبره انتصارا لصالح اقتراحاته لحلها. فلا المغرب الذي يقيم فيه البكوش منذ سنوات، على اعتبار احتضانه مقر الاتحاد المغاربي، طالبه بالخروج عن صمته الطويل وتحفظه المبالغ، والإعلان عن موقف ولو رمزي يفهم منه الرأي العام المغاربي أن الهيكل الإقليمي مهتم، أو منشغل بالتطورات الأخيرة التي حصلت مند نحو شهر في الكركارات. ولا الجزائر أخطرته بدورها بأنه مطالب بأن يفعل الأمر نفسه، وأن لا يكتفي بمتابعة التطورات الجارية من على مقعده الوثير في مبنى الاتحاد، لكن الطيب البكوش لا يشكو من تجاهل أكبر دولتين مغاربيتين له فحسب، بل حتى من فقدان الدعم المفترض من بلده تونس. فالتوتر يطغى على علاقته بالرئاسة التونسية، وهو يبدو في شبه خصومة غير معلنة مع الرئيس قيس سعيد. فعلى امتداد سنة كاملة من حكم الأخير، لم يستقبله سوى مرة واحدة لا غير، كان كل ما كشف عن فحوى ما جرى فيها هو ما نقله البكوش إلى وسائل الإعلام من أنه «قدم لرئيس الجمهورية عرضا حول أعمال الأمانة العامة لاتحاد المغرب العربي، خلال السنوات الثلاث الاخيرة» وأن اللقاء معه «تناول الصعوبات المتعلقة بتفعيل آليات الاتحاد وتحقيق الأهداف التي أُحدث من أجلها». ولم يكن ذلك سوى سطح الجليد، ودليل أولي على فتور علاقته بالسلطات الحالية في تونس.
غير أن المؤشر الأقوى على وصول علاقته معها إلى مرحلة غير مسبوقة من التردي، كانت خروجه في فبراير الماضي، وفي أعقاب تداول أخبار حول تفكير الرئيس قيس سعيد في إقالته من منصبه بتصريح ناري، قال فيه بجرأة لإحدى المحطات الإذاعية المحلية إنه «في صورة ما إذا حاول الرئيس قيس سعيد إقالتي فإنه سيضر بنفسه وبصورة البلاد لأن ذلك (أي الإقالة) يتطلب موافقة الدول الأعضاء» مهاجما بعدها الدبلوماسية التونسية التي وصفها بأنها «في حالة يرثى لها». وربما عكس ذلك التصريح حالة العزلة التي بات يعيشها الامين العام مع اتحاده، فهو لم يعد يحظى، ولو بالحد الأدنى من دعم البلد الذي رشحه للمنصب، فضلا عن أنه لم يعد يلقى لا مساندة المغرب، ولا مؤازرة الجزائر، وفقد بالتالي ثقة الحكومات. وبالنسبة له قد تكون تلك الخسارة فادحة جدا، لدرجة أنها قد لا تجعله يفكر في تدارك خسارة أخرى قد يعدها أقل أهمية، وهي خسارته ثقة الشعوب المغاربية. ولأجل ذلك فإن تفكيره في مغادرة مكتبه، وزيارة الكركارات مثلا، ولو لالتقاط صورة تذكارية هناك، سيبدو له عديم الجدوى، مادام أهل الحل والربط، أي القادة المغاربيون الخمسة، مجمعين رغم كل شيء على بقائه في الوضع الذي هو فيه من دون اي زيادة أو نقصان.
نزار بولحية
كاتب وصحافي من تونس