ليس هناك مفاجأة في الخبر المعلن عنه، أول من أمس، عن مراقبة المخابرات البريطانية الروائية دوريس ليسينغ (نوبل 2007) عشرين عاماً، لشكوك بشأن قناعاتها الشيوعية، من منتصف أربعينيات القرن الماضي إلى منتصف ستيناته، إبّان كانت الكاتبة تقيم في أفريقيا. الجديد في الواقعة، كما كشفت عنها وثائق رُفعت عنها السرية، أنها تضيف دليلاً على جهدٍ واسع كانت توليه أجهزة المخابرات العالمية، (الأميركية بالدرجة الأولى)، بشأن الأدباء والكتّاب والمثقفين والفنانين، ليس فقط بمراقبة أنشطتهم، ولا سيما إذا كانوا ذوي انتماءات حزبية، وذلك في غضون حربٍ كانت مستعرة ضد الشيوعية، بل أيضاً بالعمل الكبير لاستمالتهم، وإغرائهم وتنفيعهم وترويجهم، من أجل أن يكونوا حَمَلة القيم الأميركية، وأولها الحرية، في مناهضة الشيوعية ومضامينها المناوئة للإمبريالية، والمناصرة حقوق الشعوب في العدالة الاجتماعية والتحرر.
يكتفي ما تمّ الكشف عنه بشأن ليسنغ (توفيت في 2013) بالإفادة بأنها روقبت، غير أن كتاباَ شديد الأهمية، واستثنائياً، هو "الحرب الباردة الثقافية.. المخابرات المركزية الأمريكية وعالم الفنون والآداب"، للبريطانية فرانسيس ستونز سوندرز (صدر بالعربية، ترجمة طلعت الشايب، 2002)، يوضح، بتفاصيل موثّقة، أن كتّاباً وأدباء مشاهير استخدمتهم المخابرات الأميركية، في ذلك الجهد النشط، بعضهم من دون أن يدرون، وآخرون كانوا يعلمون ومستعدون للتعاون.
ونُصادف، في هذا كله، آرثر ميللر وأرنست همنغواي وألبرتو مورافيا وبرتراند رسل وآرثر كوستلر وإيتالو كالفينو، وغيرهم. ونقرأ، خصوصاً، عن "منظمة الحرية الثقافية" التي أنشأتها المخابرات الأميركية في 1951، وما أقامته هذه المنظمة من مؤسسات وهيئات في مطارح عديدة في العالم، تحت يافطات ورايات متنوعة، ونقرأ عن دوريات ومطبوعات ومجلات دعمتها، في بريطانيا والهند وفرنسا مثلاً، ومن ذلك شراؤها 1500 نسخة من كل عدد من مجلة "شعر" اللبنانية، وتابعية مجلة "حوار" لها (أصدرها توفيق صايغ في 1962 واستمرت خمس سنوات).
لا نقع في الكتاب (أصدره المجلس الأعلى للثقافة في مصر ضمن مشروعه القومي للترجمة)، على اسم دوريس ليسينغ، ربما لاختصاصه بنشاط المخابرات الأميركية، وإنما نقرأ عن معاداة هذه الذراع الحيوية للسياسة الأميركية، الخارجية المتنوعة المناشط والمشاغل، بابلو نيرودا، وعملها من أجل عدم ترشحه لجائزة نوبل للآداب، ونقرأ عن هجومها على سارتر في طور محدد من حياته. والمهم، في كل التفاصيل المثيرة في الكتاب الذي يسّر الخبر عن ليسينغ إطلالة هذه السطور عليه، أن المخابرات الأميركية لم تسعَ، بالضرورة، إلى شراء ذمم كتّاب ومثقفين وإفسادهم، بل إلى تعزيز نظام قيم أميركي، يتغلّف بالدعوة إلى الحرية والديمقراطية، ويُضمر تسليماً بهيمنة أميركية ونشر ثقافةٍ منزوعةٍ من مضامين العدالة والتحرر والاستقلال.
ماذا عن الأدباء والمثقفين العرب والمخابرات؟ لم تُنجز دراساتٌ تحليلية موثّقة في هذا الخصوص، كأن الانشغال بموضوعٍ كهذا من النوافل، فالعاديُّ أن تراقب أجهزة المخابرات العربية، وأذرعتها ودواليبها وحواشيها، مواطنيها من أهل الرأي والثقافة والآداب والفنون، لا بصفتهم هذه، بل بحسبانهم رعاياها أولاً. لكن، هل من الضروري ذلك، طالما أن عديدين من هؤلاء يتطوّعون، بأنفسهم، في خدمة الخيارات السياسية، بل والأمنية والبوليسية أيضاً، للحكام والمسؤولين، ويتجنّدون، بوعيٍ أو من دونه، في هذا كله. والقليلون الخارجون عن هذا المسلك يقيمون في عزلاتهم، ويبنون أوهامهم عن ذواتهم، عن أنفسهم كما يشاؤون، مع كل التقدير لمنجزاتهم وإبداعاتهم الأدبية والفنية.
والجوهري، في هذا الأمر، أن السلطات الحاكمة لا يخيفها كاتب، أو أديب، ينطق بما ينطق به، من دون أن يكون صاحب فاعلية وانتساب إلى نشاط مدني متصل بالجمهور العام. وعلى غير ذي صلةٍ بهذا، كان في محله ثناء كاتب أردني، مرّة، على كتّاب عراقيين كتبوا مدائح في الاحتلال الأميركي لبلدهم في مقابل مادي من أجهزة الاحتلال، لأن غيرهم دأبوا على هذا الأمر، وعلى مديح السياسات الأميركية عموماً، بالمجان.