جذبت الدولة العثمانية في مئويتها الأخيرة عددا كبيرا من المفكرين والعلماء من دول العالم الإسلامي والغرب. وكانت العاصمة إسطنبول، في تلك الأيام، تمنح كل شخص يزورها ذكريات تسجّل في صفحات التاريخ. وأحد هؤلاء الأشخاص هو العالم في اللغة العربية وآدابها محمد محمود بن أحمد بن محمد التركزي الشنقيطي، الذي ينحدر من موريتانيا أو بلاد شنقيط كما كانت تسمى سابقا. ولد محمود الشنقيطي عام 1829 في ولاية تكانت وسط موريتانيا، وكانت أسرته معروفة بأنها من أهل العلم في المنطقة. سافر الشنقيطي إلى أنحاء كثيرة من العالم، ووافته المنية بتاريخ 31 ديسمبر 1904 في القاهرة.
زار العالم الموريتاني الشنقيطي إسطنبول في أعوام 1868 و1875 و1883 ومكث فيها مدة طويلة التقى خلالها شخصيات بارزة من المسؤولين أمثال أحمد جودت باشا، ومنيف باشا. كما أجرى نقاشات مع علماء مهمين في المدينة. وأشرف على تعليم العديد من الشخصيات، أثناء إقامته في إسطنبول، بينهم إسماعيل حقي أفندي المنحدر من ولاية مناستر. علما أنه جاء إلى إسطنبول لتعليم اللغة العربية بناء على دعوة من الحاج إبراهيم أفندي (1826-1888)، وهو أحد تلامذته في مكة، ومؤسس «دار التعليم»، التي تعتبر أول مدرسة لتعليم لغة الضاد في إسطنبول.
أجرى الشنقيطي دراسات موسعة في مكاتب إسطنبول واشتهر بمعرفته وخبرته في مجال المخطوطات، كما أجرى نقاشات مع علماء مهمين في المدينة
أجرى الشنقيطي دراسات موسعة في مكاتب إسطنبول واشتهر بمعرفته وخبرته في مجال المخطوطات، واستضافه منيف باشا وزير التربية والتعليم آنذاك، في قصره لسنوات عديدة، وقد طلب منه جمع معلومات حول المخطوطات العربية الموجودة في المكتبات الأوروبية. كما التقى العالم الموريتاني في هذا الصدد السلطان عبد الحميد، وطلب منه أن يرسل إليه طباخا يجيد صنع المأكولات في البلدان غير الإسلامية، وشخصا يذكّره بأوقات الصلاة. وافق السلطان عبد الحميد على طلب الشنقيطي، وفي عام 1887 تم إرساله للعمل بمكتبات مختلفة في لندن وباريس وإسبانيا، وأعد خلال هذه الفترة فهرسا للمخطوطات التي رصدها هناك. لكن المشروع فشل لأنه لم يتمكن من تسليم الفهرس بسبب بعض الخلافات أثناء عودته. يقول عثمان نوري إرغين، وهو أحد مؤرخينا المشهورين، إن الشنقيطي لم يكتف بالمبلغ المالي الذي خصص له من أجل المواد التي أحضرها، وطلب المزيد من المال. وتشير بعض الروايات إلى أن السلطان عبد الحميد رفض ذلك لأن الشنقيطي اشترط تسليم رئاسة وقف تابع للمذهب المالكي في مكة إلى الموريتانيين. كانت مكانة الشنقيطي في الأدب العربي الكلاسيكي معروفة بين المستشرقين أيضا. وأثناء إقامته في إسطنبول، طلبت الحكومة السويدية من الباب العالي إرساله إلى مؤتمر المستشرقين الثامن، الذي كان سيعقد في ستوكهولم عام 1889 بصفة مندوب للدولة العثمانية، لكن الشنقيطي طرح بعض الشروط للموافقة على ذلك، الأمر الذي أزعج السلطان، فأمره بالعودة إلى المدينة المنورة. وتم اختيار المفكر والكاتب الشهير أحمد مدحت أفندي، للذهاب إلى المؤتمر. لم يكن الشنقيطي مرتاحا في المدينة، وبعد انخراطه هناك في نقاشات مع أحمد البرزنجي، على وجه الخصوص، انتقل إلى القاهرة عام 1890 واستقر فيها، وكسب دعم علماء وشخصيات مهمة، لاسيما محمد توفيق البكري، ومحمد عبده. وفي هذا الإطار، بدأ بتدريس اللغة العربية وآدابها بمساهمة من محمد عبده الذي كان منشغلا ببعض شؤون الإصلاح في الأزهر. ونجح الشنقيطي في تنشئة عدد كبير من الطلبة، وتولى مهام في نشر وإصدار بعض المؤلفات الأساسية قبل أن يفارق الحياة عام 1904 في القاهرة.
اعتبر المستشرق هنري بيريس، الرحلة التي قام بها الشنقيطي إلى إسبانيا، بمثابة استكشاف المسلمين للأندلس من جديد. ويرى أن الشنقيطي هو أول عالم مسلم ذهب إلى إسبانيا ومكث فيها فترة طويلة، بهدف إجراء أبحاث ودراسات. تضم مكتبة الشنقيطي العديد من المؤلفات المطبوعة والمخطوطة، وقد كرسها لصالح أهل شنقيط. ويوجد نحو 600 مخطوطة له حاليا في دار الكتب المصرية. أمّا كتاب «فهرس الإسكوريال»، الذي أعده بناء على توصية من السلطان عبد الحميد، فإنه موجود اليوم داخل مكتبة حسن حسني عبد الوهاب، في تونس.
كاتب تركي