الحياة ما بعد الموت في الإسلام

أحد, 10/11/2015 - 20:10

لمعت فكرة تأليف هذا الكتاب في ذهني منذ ثلاث سنوات. فأثناء تطوافي في شتى المصادر المعرفية، اطلعت على أن أساتذة للطب ذوي شهرة في أوربا وأمريكا يؤكدون من خلال تحليلات معقدة أن بمقدور العلم أن يجعل الإنسان يعيش حياة أبدية.

وقد ألف أصحاب هذه النظرية "العلمية" كتبا سرعان ما راجت رواجا كبيرا حتى أصبحت أكثر الكتب مبيعا، وتلقفها الناس في أنحاء العالم وطبعت بملايين النسخ باعتبارها فتحا عظيما في محاولة فك ألغاز الموت والانتصار على الفناء.

وكم كانت دهشتي بل وامتعاضي وسخطي عندما علمت أن بعض البلدان العربية أصبحت، عن قصد أو بغير قصد، مجالا للترويج لهذه النظرية الغريبة.

وقد استضافت بعض القنوات العربية أساتذة الطب المنظرين لما يسمى بـ"تجربة الموت الوشيك". واستفاض هؤلاء الأساتذة بكثير من التبجح في شرح فحوى كتاباتهم التي يدعون أنها تشكل ثورة في التعاطي مع إشكاليات الموت وتجازوا للمقولات الجامدة، مبرهنين "عقليا" على أن النظر إلى الوفاة بوصفها فناء محضا ليس له مستند إلا في مجال المعتقدات لأن "دلائلهم العلمية" التي ظهرت لأول مرة في كتبهم تؤكد بكل جلاء أننا خالدون.

فكيف نقبل في أرض الإسلام أن نكون وسطاء لنقل أطروحات تتناقض تماما مع النصوص المؤسِّسة لديننا الحنيف؟

كيف نصدق مقولات تتنافى مع أبسط قواعد المنطق والإدراك السليم؟ أيصل بنا تقليد الغرب والتبعية له إلى هذا الحد؟

للتعرف على "تجربة الموت الوشيك" قررت جمع الوثائق المتوفرة حول هذه المسألة.

وضعت نصب عيني أمرين:

تبيان تهافت النظرية العلمية المزعومة بإبراز نقطة في غاية الأهمية، ألا وهي أن أصحاب هذه النظرية الباحثين عن الشهرة يلعبون على عواطف الجمهور مستغلين سذاجته وانفعالاته وانبهاره حيال كل خارق للعادة. وفي سبيل ذلك يؤلفون كتبا تشهد رواجا كبيرا وتحقق مبيعات ضخمة، ولكنها تظل خواء لا تحمل أية حقائق ثابتة.

إن النظرية القائمة على "تجربة الموت الوشيك" تخدع الناس بآمال زائفة، وهي تتناغم مع المادية الجارفة على خلفية من البحث المسْعور عن المتع والملذات ورفض التديّن خاصة في المجتمعات الغربية.

تحذير الجمهور العريض وبالأخص الشباب ضد المخاطر التي تنطوي عليها تلك النظريات. ولتحقيق هذا الغرض ارتأيت ألا أقتصر على كشف ما في "تجربة الموت الوشيك" من زيف وتضليل وإنما أعمل بموازاة ذلك على تأليف كتاب يبيّن مفاهيم الروح وعالم الآخرة كما تفصلها تعاليم الإسلام. وهذا ما قادني إلى أن أستعرض في هذا المصنف شتى المراحل التي يمر بها المتوفى من موت، وبرزخ في القبر، وقيامة، وحشر ونشور، وخلود في الجنة أو النار.

وبذلك يتسنى للقارئ غير المتخصص أن يستوعب فكرة أساسية مفادها أن عالم ما بعد الموت ليس له صلة بالترّهات التي تدعيها نظرية "تجربة الموت الوشيك". والوحي وحده (القرآن والسنة) هو ما يتيح لنا أن نسْتجلي طرفا من المغيّبات والأسرار. أما الإنسان في كبريائه وغروره فما له من علم بذلك.

إن الموت والحياة بيد الله وحده. ولا يمكن لأي تدخل بشري من أي نوع كان أن يغيّر مجرى القدر أو يؤخر المصير المحتوم.

وماهية الروح وحقائق الآخرة جزء من عالم الغيب المخفي الذي استأثر بعلمه الباري جل شأنه، ولم يعط مفاتيحه لأحد من خلقه حتى ولو كان نبيا مرسلا. فعلى حدود الغيب تقف معرفة الإنسان ويرتد إليه بصره حسيرا.

ولن يُثْنِيَني الاتهام بأني رجعي بكل معاني الكلمة – أي بمعارضة العلم والتقدم - عن أن أجزم جزما باتا وأن أعتقد اعتقادا راسخا في أن الحياة ولو طالت مليارات السنين وتكاتفت جهود الباحثين في العالم بأسره فلن يستطيعوا أن يكتشفوا سر الروح والدار الآخرة.

فالحياة بيد الله وهو الذي يعطيها ويوقفها في أجل مسمى. وكل ما عدا ذلك هراء وأباطيل.

وإذا كان بالإمكان تضليل السذج وخداعهم بنظرية "تجربة الموت الوشيك" بادعاء وجود بدائل وهمية عن الإرادة الربانية، فلا يمكن بطبيعة الحال خداع الخالق المصور سبحانه. وليست محاولة "قتل الموت" و"ترويض" الآخرة إلا ضرب من الهذيان. إنها شعوذة تتشح برداء العلم.

لكن ما هو بالضبط فحوى "تجربة الموت الوشيك"؟

اعتمادا على شهادات ذاتية أدلى بها أشخاص "انسلخوا" من أجسامهم إثر إغماءة أو موت سريري، يحاول أصحاب النظرية القائمة على "تجربة الموت الوشيك" أن يلبسوا هذه التجارب لبوس العلم.

وأغلب الاحتمال أن تلك الحكايات وليدة هلوسات وأضغاث أحلام أفرزها دماغ تنتابه الهواجس والضغوط الشديدة.

ولو فرضنا جدلا أن شهادة "العائدين" من الموت صادقة – وهو مجرد افتراض – فما ذا يفيدنا ذلك؟ ما علاقة هذا الأمر بالخلود؟ وبالأخص ما الآمال التي يبشر بها ذلك لتحقيق سعادة الإنسانية؟ وما حقيقة هذه "الآخرة" الموعودة؟ إنها أسئلة ليس لها إطلاقا أجوبة شافية.

الواقع أن هناك احتماليْن لا ثالث لهما: إما أن يعود الشخص المُدْلي بالشهادة إلى الحياة ويقص تجربته، وإما أن يموت موتة لا رجعة منها. ففي الحالة الأولى، لا تنبئنا قصته بشيء حاسم أكثر من حكاية حلم يبقى مضمونه مظنة للشكوك والارتياب. وفي الحالة الثانية التي تقع فيها الوفاة الحقيقية، ينقطع الاتصال تماما مع الشخص المتوفى على الأقل من منطلق أصحاب نظرية "تجربة الموت الوشيك".

وعلى العكس من ذلك، سنرى أن العلاقة بين الأموات والأحياء في المفهوم الأخروي الإسلامي تظل قائمة وحقيقية.

لكن المسلمين يعرفون ذلك، كما شرحته في كتابي، من خلال الوحي الرباني الذي هو الوسيلة الوحيدة لمعرفة ما يجري في عالم الغيب والمصير ما بعد الموت.

ومن السهل أن نتصور إمكانية "خروج" الروح من الجسم لبعض الوقت جرّاء مشكلة ما، فيكون المرء في وضع برزخي لا هو في الدنيا ولا هو في الآخرة على النحو الذي تصفها به الديانات التوحيدية .

وتظهر الحياة في هذا الوضع البرزخي على شكل غابة من الأشباح، والأخيلة، و"المُدْرَكات" غير المتجسدة التي تحوم في الفراغ وتوسوس للأحياء.

وتأسيسا على ما أسلفنا يتبيّن أن هذا الشكل من "الحياة" بعد الممات – على افتراض وجوده – لا يعدو أن يكون وهما لا حقيقة له ولا معنى. وهو ينحصر في هروب محتمل، حتى وإن كان واعيا، في أثناء غيبوبة أو موت سريري يظل فيه المريض طريح الفراش ومعلقا بغابة من أجهزة الإنعاش الطبي.

على أن غالبية رجالات العلم لم يغتروا بمزاعم نظرية "تجربة الموت الوشيك". لقد أدركوا جليا أنها مجرد أوهام لا طائل منها، ففنّدوها بالبراهين والأدلة كما أبرزنا في الكتاب.

ولا يسع أي مسلم مخلص لدينه إلا أن يرفض هذه النظرية المزعومة التي تسعى في التحليل النهائي إلى أن تُحِل الخيال المغري محل الحقيقة الواقعة. وصدق من قال: "أكذب الحديث أحلام اليقظة".

إن المسلمين لا يراودهم بتاتا أمل الخلود في الحياة الدنيا. وهم على يقين من أنهم لن يعودوا إلى الحياة بعد الموت إلا عند البعث يوم القيامة.

ويهدف كتابنا هذا إلى بلوغ هدف مزدوج: فهو يرمي إلى دحض تلك النظريات الهدّامة التي تروّج لخلود زائف، من جهة، وتوضيح الحقيقة المشوشة في أذهان البعض لحالة الميت منذ وفاته وحتى بعثه، حسب التعاليم الإسلامية، من جهة أخرى.

 

موسى حرمة الله

أستاذ جامعي، كاتب