كلما حسبنا نجْمَ التعذيب أفلَ، انبلج.. وكلما حسبناه اختفى، بزغ.. وكلما حسبناه خفَتَ، لمَع.. إنه نجم لا يُصَرّف فينا من الأفعال إلا ظَهَرَ وأشْرَقَ ولاحَ، وما في تلك الجعاب من مرادفات السطوع.
في كل عشرية، منذ ستينات القرن المنصرم، يموت واحد أو آحاد تحت وقع كرابيج البوليس، وسياط الدرك، وهراوات الحرس، ورشاشات الجيش. معركة ظلوا وباتوا وما فتئوا يواجهون فيها شعبهم داخل المخافر وفي دهاليز الزنزانات وعلى أرصفة الشوارع، دون سبب مقنع. لماذا؟ إلى متى؟ وكيف الخلاص؟: أسئلة تبدو معلقة إلى الأبد. فهل من نحرير يقنعهم أننا منهم وأنهم منا!.. هل من ذكي يُفهمهم أننا عُزّل بطبيعتنا، وأننا مدنيون في حقيقتنا، وأننا، رغم الحاجة، لم نتدرب على العنف ولسنا مهيئين للقتال!!.. هل من فهّامة يلقنهم دورهم في الصبر لنا، ودورهم في خدمتنا، ودورهم في حمايتنا!!..
لعله جدير بنا أن نتذكر أن الأمن ينقسم في العالم إلى قسمين، لكل منهما أسلوبه وفلسفته: أمن يعتبر نفسه أبًا للشعب، وأمن يعتبر نفسه ابنًا للشعب. فـ"الأمنُ-الأبُ" يعتبر الشعب قاصرا، وبالتالي فكل مدني يظل في نظرهم مراهقا يمكن ترويضه وتعنيفه وتوبيخه وصفعه حتى ولو بلغ ثلاثمائة سنين وازداد تسعا. وكل من لبس زي الأمن واحتذى حذاء خشنا تخوله أبُوّته المزعومة حق شتم المارة، والبصق على وجوه السائقين، ونتف لُحَى الأئمة، وركل النساء الحوامل.
هذه سُنّة الأمن في ظل كل الدكتاتوريات: من استالين، إلى موبوتو، إلى جل أنظمة "منكبنا البرزخي" المثقل بالنياشين المزيفة. أما "الأمنُ-الإبنُ" فيعتنق عقيدة أمنية قوامها برور الشعب باعتبارها أبًا، فيقوم على خدمته متوددا، ويسعى لراحته بلطف، ويسهر بلا كلل على تأمين المنازل والطرق والأزقة، ويقوم بواجبه باسما في الأسواق، والمطارات، والمعابر، والمفوضيات. وحتى إذا ضرب رجلُ الأمن غرامة على مواطن ما تراه يكتبها وهو يبتسم ويعتذر، وإن فرضه القانون على توقيف مواطن خالف المسطرة هيأ له أسباب الراحة في معتقله لأن مشكلة المعتقل مع القانون وليست مع رجل الأمن. تلك سُنّة الأمن في ظل كل الديمقراطيات والأنظمة الناضجة والمنصفة والعادلة.
انطلاقا من التقسيم الآنف، يبدو أنه حان الوقت ليقتنع أمننا أن وعي الجماهير، وعهد الانترنيت، وبروز ظاهرة النضال الحقوقي، أمور لم يعد معها "الأمنُ-الأبُ" المتغطرس مقبولا على الإطلاقا، وبالتالي عليه أن يفهم أن عهد الصعق بأسلاك الكهرباء ولى، وأن زمن إطفاء أعقاب السجائر في بطون المناوئين زال، وأن عليه أن يعتنق عقيدة أمنية جديدة كليا ليساير الزمنَ في صيرورته الحتمية، وليتماشى مع القوانين والآليات الدولية التي صادقت عليها موريتانيا واعتمدتها في منظومتها القانونية والحقوقية. ما يعني، باختصار، أننا بحاجة إلى مراجعة أمنية شاملة تقتلع فكر التعسف من أدمغة رجال الأمن وتملأ الفراغ بالقوانين والقيم الحقوقية العصرية. أي أن الوضع الراهن الحساس يستدعي من القائمين على أمرنا أن يطلسوا سبورة الأمن القديمة.
وبعد محو كل حرف وفاصلة، يكون عليهم أن يكتبوا عليها من جديد -وبأحرف بارزة- ما ينبغي وما لا ينبغي، وما يجوز وما يحرم، وما هو مقبول وما هو مرفوض. وهكذا يقلب الأمنُ صفحة "الأمن-الأب" المضرجة بالدماء، ويفتح صفحة "الأمن-الإبن" المفعمة بالمرونة والاعتدال والإنصاف والتقيد حرفيا بالمساطر والإجراءات القانونية.
فإذا كانت المدرسة الجمهورية مطلبا استراتيجيا وضرورة تاريخية مُلِحّة، فإن إنشاء أمن جمهوري أصبح أكثر إلحاحا في ظل التجاوزات الخطيرة والانتهاكات الضارة بسلامة وكرامة المواطنين وبلحمتهم وبمستقبل احترامهم للدولة واقتناعهم بها. إن علينا، قبل أن تتفحم ظهورنا جَلْدًا، أن نطلق حملة مدوية من أجل التفكير في إنشاء أمن جمهوري يَعْرف حدودَ صلاحياته. وإن علينا، قبل أن يُسْكِنوا في عيوننا أسلاكَ الكهرباء، أن نضغط من أجل إعادة تأسيس الأمن الوطني على خرسانة إسمنتية من حقوق الانسان وقيّم التسامح ومفهوم المرونة ومبدأ العدل.. فلننطلق، إذن، قبل فوات الأوان.