انطلاقا من قراءة الواقع واستنطاقا للأحداث وبعيدا عن الموالاة والمعارضة أوالمناصحة والمناطحة أو التزلّف و التذمّر أو المجاملة والتحامل.
وأداء للأمانة وطلبا لإبراز مكمن المرض وحقيقة العلاج أتحدث في هذا المقال عن أكبر الأدواء السياسية في بلدي وأنفع الأدوية الإصلاحية، باحثا عن العافية الدمقراطية والتشخيص السليم مذكرا في البداية أنه ليست هنالك جهة واحدة تتحمل تاريخ الأخطاء وحدها ولا حاضر النقص كله ولا مستقبل الفساد جميعا كما أنه لا يملك تراكم الاصلاح الموجود ولا سابق العلاج المشهود ولا أمل التغيير المنشود جهة واحدة أيضا بل الله يعلم المفسد من المصلح وتلك أمّة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون إلا عما كنتم و ما زلتم تعملون ؟
مع كل التحولات التي شهدتها موريتانيا سياسيا مدنية كانت أوعسكرية وحتى مزيجا بينهما ورغم التطفل على الدمقراطية وأساليبها واستحضارا لتنوّع البنية التركيبية المجتمعية وانتباها لخصوصية الوضعية الجغرافية والإقليميّة بقيت هنالك معوقات كبيرة قديمة جديدة تنخر في نموّ التقدم الواعي والحضور الفاعل والدور المهم في ميادين الحكم والرعية، مما يتطلب الحديث عنها تنبيها وتوجيها وإيجاد حلول حقيقية جادّة تساعد على الاصلاح والتغيير و سأختصر الحديث عن الموضوع من خلال محورين أساسيين
أولا : المعوقات
1 : الجهل بالمصلحة العامّة :
إن كثيرا من الناس لا يعرف ما له وما عليه وهو رهين جهل بالشرع وعادم تأثير في الواقع لا يميّز بين واجب إقامة العدل والحرّية ولا حرمة ترك توسّع الظلم والفساد
وهذا الجهل منه ما هو من صناعة الأفراد وعدم وعيهم وقد يتولد من غياب نشر ثقافة الاهتمام بالشأن العام وانتشار الأمّية الواسعة
2 : التقليد الأعمى ( الزعامات )
داخل المجتمعات المتخلّفة ذي النزعة البدوية والطابع المنغلق والطبقيّة المتباينة يتولد داء التقليد الأعمى فيسيطر على العقل ويسلب الفكر ويصادر الرأي
ونحن في موريتانيا لم نسلم من نصيب معتبر من التقليد الأعمى الذي نكل فيه أمر حريتنا لغيرنا دائما وبدون شروط ولا قيود وحينها نجعل الدولة مجبورة على مفاوضة الزعامات الموجودة لا الجلوس على أرضية الانصات والاستماع لقناعات عموم الناس ممن لهم الأهلية والأحقية
3 : الارتهان لمبدأ الموازنات ( حسب العقلية المسيطرة ) :
إن التوازن مطلوب وهو النجاح بعينه لكن التوازن بين معايير الطبقيّة وآراء المفسدين ومسلّمات المجتمع الجامد ومحكّمات الدولة العميقة أي العقيمة غير مطلوب وليس توازنا بل هو شطط وميل عن الجادّة والسبيل القويم واستمرار على الفشل والتأخر وإنما الحق كل الحق جعل القوة والأمانة والشفافية معيارا وحيدا للتقدم والتطور لا جعل الاعتبارات ذات البعد المختلط الملتبس أساسا لوضع السياسات وتقسيم الكعكة
4 : حبّ الثراء العاجل الفاحش :
لا ينبغي أن تكون السياسة وسيلة للثراء بدون سبب بل هي طريقة لغرس قيم التعايش الفاضل لكننا للأسف نعيش في زمن طغيان المادة بشكل رهيب و في موريتانيا تحديدا متميزون جدا بالتركيز على المادّة فكثيرا ما نختصر كل المسافات والاهتمامات في شيء واحد هو جمع المال بغض النظر عن المصدر والطريقة ونضع المال معيارا للأفضلية والكفاءة وعاملا للتميز والريادة فبين عشيّة وضحاها يصير فقير الأمس غني اليوم وأخيرًا ازداد التنافس وحمي الوطيس وقضي على الطبقة الوسطى وأصبح التنافس في حلبة الكبار فقط أما الضعفاء الفقراء فقد اجتمعوا في صعيد واحد
5 : الاحباط المتكرر والتجارب الفاشلة :
تعب أغلب الناس من الشعارات الفارغة والأوجه المملولة المنبوذة والأساليب المتكررة دون جدوى مما ولد عند البعض إحباطا أقعدَه ويأسا حرَمَه وألما أرهقه وصدق الأديب الأريب حين قال
وللمناصب قومٌ
عليهم تستدير
والحالُ كالحال قدماً
على خطاها تسيرُ
6 : نُخب التعيين وأحزاب صريح الشِّغار :
النخب جمع نخبة وهي مجموعة من الأفراد الذين يقودون المجتمع أو هي فئة مالكة للقوة والنفوذ والامتيازات أو هي خلاصة المجتمع من مفكرين ومثقفين وعلماء في مجالات عدة
و عبر التاريخ يوجد دوماً في كل أمة من الأمم نخبة من أهلها أو فرقة أو جماعة تتولى مسألة النهوض بالأمة
وصياغة رؤية حضارية لها وتقوم كذلك بالمساهمة في خطط البناء وتولي التوجيه والإرشاد انطلاقاً من وعي تام بالمسؤولية الملقاة على عاتقها لكننا في موريتانيا نجد نخبا غالبا همها التعيين وهدفها المشاركة للمشاركة فقط ورسالتها ما عليّ اليوم إلا نفسي
فبدل أن تكون النخب فرجا ومخرجا تصبح كربا وضيقا
و يغذي هذا الجانب جانب آخر ليس دونه في الخطل ولا الخطأ إنه ظاهرة أحزاب صريح الشغار : الذي هو البضع بالبضع من غير ذكر صداق أصلا قال الامام عياض رحمه الله : ولا خلاف في النهي عنه ابتداء فإن وقع أمضاه الكوفيون والليث والزهري وعطاء إذا صُحح بصداق المثل وأبطله مالك والشافعي واختلف في علة البطلان فقيل: لأن كلا من الفرجين معقود به وعليه وقيل لخلوه من الصداق فعلى الأول فساده في عقده فيفسخ بعد البناء وعلى الثاني فساده في صداقه فيمضي بالبناء وهما قولان لمالك رضي الله عنه.
إن كثيرا من الاحزاب إنما تقوم على عقود تبادل المنافع واستراتيجيات من قبيل سلِّم تستلَم وصوِّت ثم اتصل وادعم ثم انتظر وهذا كله لا يقدم ولا يبني بل هو تخلّف وتخاذل ودور الاحزاب الحقيقي هو تجسيد الدمقراطية واحترام القناعات وتطوير المؤسسات وتوعية المواطنين والدفاع عنهم والتعاون والنصح وتحسين الأداء السياسي والرفع من مستوى الخطاب الجامع المانع النافع
7 : عقدة التزوير :
التزوير في اللغة مشتق من كلمة زوّر والزور هو الكذب والباطل والتزوير في الفقه هو وسيلة يستعملها شخص ما لكي يغش بها شخصًا آخر
أما التزوير في الفقه الجنائي فهو تغيير الحقيقة بقصد الغش في سند أو وثيقة أو أي محرر آخر بإحدى الطرق المادية أو المعنوية التي يبينها القانون حيث يحدث تغييرًا من شأنه إحداث ضرر بالمصلحة العامة أو مصلحة شخص من الأشخاص ونحن في بلدنا عانينا خلال فترات ماضية من شبح التزوير حيث كان عائقا حقيقيا أمام الدمقراطية الوليدة عندنا وشوّه سمعة العملية السياسية
ثانيا : الحلول :
وبعد الخوض في أهم معالم الداء السياسيّ وخوض غمار معمعانه الشديد أصل إلى ذكر الحلول الجادة لمن أراد العافية وطلب الإصلاح .
1 : العلم والوعي :
لا إصلاح بلا علم ولا علم دون منهج ولا منهج دون رؤية ولا رؤية دون إدارة ولا إدارة دون قيادة ولا قيادة دون إرادة والإرادة هي لبّ الموضوع
ثم بعد العلم نشرا وتعليما وتعميما وتقريبا وتيسيرا وجدّية وتطويرا وإبداعا يأتي الوعي الذي هو صفة أساسية ملازمة للإنسان فالذي يتميز به الإنسان عن الحيوان هو الوعي يبدأ المرء بوعي حاجياته الأساسية التي تكفل له بقاءه ونماءه ثم يتطور هذا الوعي عبر التأمل والتفكير ليدرك المرء العلاقة بينه وبين محيطه ودولته وأمّته
2 : العدل والحرية :
إذا أردنا النجاح والفلاح علينا أن ننشر العدل ونبسط الحرية التي تقف عند حدودها فالعدل أساس الدولة وسيد الإستقرار وصمّام أمان الجميع والحرية هي فضاء العمل وأرض الإنجاز وروح المواطنة
يقول مثل روسي مشهور لا تخف من العدالة بل من القاضي
3 : العمل بالقانون واحترامه :
تكمن أهمية القانون في تنظيم العلاقة بين الناس لضمان استمرار وجود المجتمع وحمايته وتطوره ونهوضه نحو التقدم والازدهار وتحقيق الأمن والاستقرار للأفراد فعندما يشعر الفرد بأنّه لن يتم الاعتداء عليه ومحفوظ عليه ماله وعرضه ودمه ودينه فإنّه يشعر بالأمان والاستقرار ولكن ذالك كله لا يكون إلا إذا كانت هنالك صرامة وحزم واحترام
4 : التعاون والتكافل :
من الضرورة بمكان أن نتعاون فيما بيننا على مصلحة بلدنا وأن يكون هدفنا جميعا هو الخير والعطاء والمودّة والإخاء والعمل والنّماء ويتعيّن علينا المحافظة على روح التكافل الموجود فهو ميزة حسنة نتميّز بها عن كثير من البلدان والمجتمعات فأهل هذه البلاد كثير منهم ورث مكارم محمودة ومحاسن نافعة ينبغي التشبّث بها وعدم الرضوخ للبخل المذموم والجزع المادّيّ المرفوض
5 : تعزيز القيم السياسية :
تحتاج السياسة عندنا لإعادة الاعتبار لها فقد ظلمها الكثير بممارسته الخاطئة فنحن نربط السياسة أحيانا وخصوصا في وسط عامّة الناس الذين هم السواد الأعظم بالمصلحة الضيقة والقبليّة المفرّقة والجهويّة المتعصّبة والكذب القاتل والعيب الظالم والحسد المحرّم ونحرمها من كونها وسيلة للحكم الراشد والدولة العادلة والوسيلة الجامعة والقوّة النّاعمة فيجدر بنا تعزيز قيم من قبيل الشورى والحرية والأمانة والقوّة وإبعاد كل ما يهدم القيم ويعزّز الاستعباد أو الاستغفال
ختاما : إن الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم