بعد نشري لمقال "الكارثة الصفراء" أرسل لي أخ عزيز وصديق فاضل يقيم في الولايات المتحدة الأمريكية رسالة جاء فيها:" الأدهى والأمر في هذه القضية، ليس أن الدولة الموريتانية قد جنت أرباحا من مواطنيها، ومن بينهم من ينتمون للطبقات الهشة. لكن ما لم يُحسب له حساب هو أن شركتين، أسترالية (Minelab) وأمريكية (Garrett)، جنتا أرباحا خيالية حقا، من جيوب الموريتانيين. والدليل على ذلك أن آلة ماينلاب مثلا، تصاعد سعرها من 1700 دولار إلى ستة ألاف دولار، في غضون ستة أسابيع.
اتصلتُ الأسبوع الماضي بمقر إحدى الشركات الموزعة لآلات ماينلاب في ولاية نفادا، وسألتهم هل لديهم إحدى تلك الآلات واسمها GPX4500. فأجابني الرجل أن تلك الآلات انقرضت من الولايات المتحدة بشكل كامل. فسألته ما السبب؟ فأجابني بأن السبب هو ظهور حُمّى التنقيب (تلك كانت عبارته) في بلدين إفريقيين هما اتشاد وموريتانيا."
إن هذه الرسالة قد تعطينا صورة واضحة عن حجم الكارثة، وعن المبالغ الطائلة التي تم استنزافها من العملات الصعبة لاستيراد أجهزة التنقيب عن الذهب، فأن ينفد مخزون شركتين (أمريكية واسترالية) في أيام معدودة، وأن يتضاعف أسعار أجهزتهم المعروضة للبيع أربع مرات خلال ستة أسابيع، فإن ذلك يعني أن الإقبال على شراء تلك الأجهزة كان خارج كل التوقعات.
إنها أموال ضخمة من مدخرات الشعب الموريتاني تم استنزافها في أيام معدودة لشراء آلاف أجهزة التنقيب بأسعار خيالية، فمن يتحمل المسؤولية في حصول ذلك؟
قبل محاولة الإجابة على هذا السؤال، فلابد من القول، بأننا لا نمتلك ـ وإلى حد الآن ـ أية معلومات موثوقة عن كميات الذهب الموجودة في صحاري انشيري، ولكن وحسب ما جمعته من آراء المهتمين ومن شهادات المنقبين فإنه يمكنني أن أقول بأن وجود الذهب في صحاري إنشيري ليس بالكذبة، ولكنه أيضا لا يصل إلى الحجم الذي تم الترويج له في الأسابيع الماضية.
إن ما يوجد من ذهب في صحاري انشيري قد يكون كافيا لتوفير دخل معقول لآلاف الموريتانيين، ولكن يشترط لتحقق ذلك أن تكون هناك إقامة دائمة (استحداث قرى في المنطقة)، وذلك لتمكين المنقبين من البقاء، ومن الاستمرار في عمليات التنقيب لمدة أطول. إن ما يوجد من ذهب يمكن أن يشغل آلاف العاطلين عن العمل، ولكنه لا يمكن أن يكون وسيلة للثراء السريع كما توقع عشرات الآلاف من الموريتانيين. أشير إلى أن هذه مجرد استنتاجات شخصية اعتمدت فيها على آراء بعض الأشخاص الذين لهم صلة بالموضوع، وهي صلة لا تصل إلى حد يسمح بوصفهم بالخبراء.
لقد كانت هناك مبالغة كبيرة في قصة وجود الذهب الشيء الذي جعل الآلاف من الموريتانيين يتوقعون بأنهم سيغرفون الذهب من صحراء انشيري بمجرد وصولهم إلى تلك الصحراء بصحبة جهاز تنقيب ورخصة.
هذا التوقع الخاطئ هو الذي جعل الكثيرين يقدمون على تصرفات جنونية وطائشة من قبيل: ـ تصفية البعض لأملاكه في الخارج (محلات تجارية)، والعودة إلى أرض الوطن للتنقيب عن الذهب.
ـ رهن البعض لمنازل تم تشييدها بشق الأنفس أو بيعها بثمن بخس من أجل توفير ثمن جهاز تنقيب، ورخصة، وسيارة صالحة لعمليات التنقيب.
ـ توقيع البعض على شيكات بدون رصيد.
ـ بيع البعض لقطعان حيوان على وجه الاستعجال وبثمن بخس من أجل توفير مستلزمات التنقيب.
ـ لجوء بعض الأسر إلى إنفاق كل مدخراتها لتجهيز منقب من أفراد الأسرة على الرغم من أن تلك المدخرات ما كان لها أن تنفق إلا في الحالات الاستثنائية جدا كمرض أحد أفراد العائلة.
هذه مجرد نماذج من ضمن نماذج أخرى لا يمكن بسطها في هذا المقال، وكل نموذج من هذه النماذج تكرر حدوثه مئات المرات إن لم أقل آلاف المرات. أموال طائلة تم استنزافها من آلاف الضحايا، وهذه الأموال توجد الآن في خزينة الدولة أو في حسابات شركات أجنبية متخصصة في بيع أجهزة التنقيب عن الذهب.
لنعد إلى السؤال : من المسؤول عن حصول هذه الكارثة؟
إن الإجابة المباشرة على هذا السؤال تقول بأن المسؤول عن هذه الكارثة هو السلطة ثم السلطة ثم السلطة ثم شركات التنقيب وسماسرتها ثم الضحايا أنفسهم.
إن مسؤولية السلطة تظهر من خلال كونها قد عملت على ترويج الإشاعات القائلة بوجود الذهب بكميات كبيرة، وذلك بدلا من تفنيد تلك الإشاعات من خلال تقديم معلومات موثوقة وغير مبالغ فيها. لقد روجت السلطة القائمة لتلك الإشاعات من خلال:
1 ـ جمركة الأجهزة ومنح التراخيص وتحديد سعر مرتفع نسبيا لتلك التراخيص. إن جمركة الأجهزة وبيع التراخيص بسعر مرتفع بالإضافة إلى أنه يعكس جشع السلطة، إلا أنه يعطي أيضا مصداقية لتلك الإشاعات التي كانت تقول بوجود الذهب بكميات كبيرة.
2 ـ تحديد المساحات، والقول بأن التراخيص سيقتصر منحها للموريتانيين لتبقى الاستفادة خاصة بهم، إن ذلك قد أعطى أيضا مصداقية أكبر لتلك الإشاعات . كنتُ أتمنى أن تكون السلطة قد أشركت الأجانب في هذه التراخيص، وذلك لكي يتقاسموا الخسائر مع الموريتانيين.
3 ـ إعلان الدولة بأنها ستحدد آلية لشراء الذهب من عند المواطنين، وأن البنك المركزي سيحتكر عملية الشراء. يبدو أن هذا الإعلان الذي لم يتم تنفيذه حتى الآن لم يكن الغرض منه إلا الترويج لإشاعات وجود الذهب بكميات كبيرة. إن كل هذه الإجراءات التي اتخذتها السلطة مع غيرها قد ساهمت كثيرا في تصديق المواطنين لوجود الذهب بكميات كبيرة ، وهو الشيء الذي أدى في المحصلة النهائية إلى تكبد آلاف المواطنين لخسائر كبيرة في أيام الشدة هذه.
دعونا نفترض جدلا بأن السلطة لم تفعل أيا شيء من ذلك، وبأنها لم تروج لتلك الإشاعات، حتى ولو افترضنا ذلك، فإنه كان عليها أن تقوم بإجراءات سريعة لمنع المواطنين من المخاطرة بأموالهم بتلك الطريقة الحمقاء التي شاهدناها في الأيام والأسابيع الماضية.
لقد استنزفت السلطة أموالا طائلة على حساب مواطنيها في هذا العام العصيب، وساعدت شركات أجنبية لتستنزف هي أيضا أموالا طائلة على حسابهم، وكانت النتيجة أن حصل ما حصل.
إنه لا شيء يمكن أن نستغربه من هذه السلطة الجشعة التي ابتلينا بها، فمن يدري فربما يتم الترويج غدا لوجود الفيلة في موريتانيا، وربما تعلن السلطة بناءً على ذلك عن فتح المجال للترخيص لكل موريتاني يريد الحصول على عاج فيل، وأن تحدد لذلك الترخيص سعرا مرتفعا.
لقد ابتليتم بسلطة لا يرق قلبها لحالكم، وهي لا تفكر إلا في جمع الأموال الطائلة من جيوبكم الفارغة..كان الله في عونكم.
حفظ الله موريتانيا.. محمد الأمين ولد الفاضل