التصوف والزهد والحرص على أداء الفروض الخمسة، وعدم الاكتراث بملذات الحياة الدنيا، تلك كانت الملامح الرئيسة المشتركة، التي نجح الجنرالات الثلاثة، في ثلاثة دول مختلفة، هي «مصر وباكستان وموريتانيا»، أن يبرزوها لرئيسهم المدني المنتخب، ويكسبوا من خلالها ثقته المطلقة، قبل أن يُظهروا وجهًا آخر تمامًا، في الوقت المحدد الذي ينقضون فيه عليه.
وجه غير ذلك الذي اعتاد عليه منهم، خلال فترته القصيرة في حكم بلاد يستأثر فيها العسكريون دائمًا بالسلطة، إلا في لحظات نادرة واستنثنائه، تفرضها ظروف قهرية عليهم، ومن ثم يعاودون طريقهم كل مرة بنفس الاستراتيجية التي تنجح دائمًا، وتنطلي على الرئيس المدني المنتخب، في كل مرة.
وبعيدًا عن كل المآسي التي قد تحدث إبان الصراع، بين الرئيس المدني والجنرال العسكري، ستذهب معنا في هذا التقرير إلى ثلاثة قصور رئاسية، في أكثر لحظاتها اشتعالًا، لتنظر إلى الزاوية الأطرف في الأمر برمته، وهي التشابه إلى حد التطابق أحيانًا بين النماذج الثلاثة، في تلك اللحظات الاستثنائية التي اتبع فيها كل جنرال من الجنرالات الثلاثة، نفس الخطة المحكمة العابرة للزمن، ونجح كل واحد منهم خلالها في إبراز وجه الزاهد التقي، للرئيس المدني المنتخب، قبل أن ينقض عليه.
المشير «السيسي».. فوائد البكاء في صلاة الظهر
في تصريحات لها، عقب الإطاحة بأول رئيس مدني منتخب ديمقراطيًا في مصر، «محمد مرسي»، قالت زوجة «خيرت الشاطر»، نائب مرشد جماعة «الإخوان المسلمين»، الذي يراه الكثيرون ـ باعتباره من كان ـ العقل المدبر لرئيس الجمهورية محمد مرسي، من خلف الستار، في عام حكمه، أن زوجها كان دائمًا ما يحدثها عن تقوى وزير الدفاع الفريق «عبد الفتاح السيسي»، وأنه رجل صوام وقوام، على حد تعبيرها.
وأعربت في نفس التصريحات، عن أن قيام السيسي بعزل مرسي، كان بمثابة صدمة صاعقة بالنسبة لهم؛ فالرجل لم يكن باديًا عليه أنه يبيت أية نية لما حدث.
وصرح القيادي بجماعة الإخوان المسلمين وحزب «الحرية والعدالة»، «قطب العربي» فيما بعد، أن الفريق السيسي كان يرفض تناول الطعام أو الشراب، حين يزور محمد مرسي، يوم الاثنين، مبررًا ذلك، بأنه يؤدي سنة الصيام يومي الاثنين والخميس من كل أسبوع.
وقد قال نصًا، في حوار له مع شبكة «CNN» العربية، »كان يشيع هو ورجاله عن نفسه أنه رجل متدين إلى حد التطرف، وأن زوجته وابنته منقبتان بالكامل، وكنا بالطبع نصدق ذلك، فكيف لنا تكذيب الرجل؛ وقد كان يبكي في صلاة الظهر، بالرغم من أنها ليست من الصلوات التي يسمع فيها صوت تلاوة القرآن؛ لإقناعنا بتقواه وتأثره. هذا في الواقع كان مجرد تمثيل على القيادة السياسية الموجودة، والتمثيل استمر حتى اللحظات الأخيرة؛ فعند صدور التحذير الأول من قيادة الجيش، خلال الأزمة، بمنح مهلة أسبوع للحل اتصل به المتحدث الرسمي باسم الرئاسة، «ياسر علي»، وسأله عن القضية، فرد الأخير بدعوته إلى «عدم تصديق الشائعات التي تريد الإيقاع بين الرئاسة والجيش».
في الواقع، خلال العام الذي حكم فيه الرئيس المدني المنتخب محمد مرسي مصر، استطاع قائد قواته المسلحة الفريق عبد الفتاح السيسي، أن يحظى بثقته دائمًا، وبثقة أهم القيادات في جماعة الإخوان المسلمين.
وقبل ساعات من خروج تظاهرات 30 يونيو (حزيران) من عام 2013، التي أدت في النهاية إلى عزل وزير الدفاع عبد الفاتح السيسي، للرئيس المصري آنذاك محمد مرسي، خطب الرئيس في الشعب، وكان الفريق عبد الفتاح السيسي جالسًا أمامه، وقال الرئيس بلسان تملؤه الثقة، إن القوات المسلحة تتحرك في أماكن مفصلية بالوطن، لطمأنة الناس، ليعلم الناس أن هناك رجال، سيحفظون أمن الوطن؛ إن فكر عابث أن يعبث، وأن القوات المسلحة هي عين إضافية ساهرة على أمن الوطن، مع وزارة الداخلية.
وختم الرئيس حديثه، قبل أيام من عزل القوات المسلحة له، قائلًا «إلى هؤلاء الذين يسعون إلى محاولة توريط القوات المسلحة، (مش هينجحوا، طبعًا، مستحيل.. احنا عندنا رجالة زي الدهب في القوات المسلحة)».
وعلى كل حال بعد عزله لرئيس الجمهورية المنتخب، نفى الفريق عبد الفتاح السيسي في حوار له مع محاورته من «واشنطون بوست»، بتاريخ أغسطس (آب) 2013، أن يكون له أية نية للاستحواذ على السلطة، أو الترشح لرئاسة الجمهورية، بعد قيامه بعزل الرئيس المدني؛ إذ قال لمحاورته التي كانت تشك في نوايا الجنرال »أنتِ فقط لا تُصدّقين أن هُناك أشخاصًا لا يطمحون في السلطة».
لكن عبد الفتاح السيسي عاد بعد أقل من عام ليترشح للانتخابات الرئاسية المصرية، ويصبح رئيس الجمهورية الحالي لجمهورية مصر العربية، ويستكمل سلسلة الرؤساء العسكريين لمصر، التي لم تنكسر لأكثر من عامين.
الجنرال «ضياء الحق».. لاعب الجولف المتدين
المحافظة على أداء الفروض الخمسة، والغرام بلعبة «الجولف»، والزهد في الحياة الدنيا. كانت تلك هي الملامح المميزة لشخصية «ضياء الحق»، كما تمثلت لرئيس الوزراء، وحاكم باكستان، «ذو الفقار علي بوتو»، وجعلته يثق فيه بشدة، حين كان ينفذ خطته المتعلقة بتحجيم أي خطر تدخل عسكري ضد التجربة المدنية في الحكم بباكستان.
في الأول من أبريل (نيسان) 1976، أبعد الرئيس «بوتو»، الجنرالات الذين أثاروا قلقه، بشأن إمكانية انقضاضهم على السلطة، وعين الجنرال ضياء الحق، رئيسًا لأركان الجيش؛ ظنًا منه أن الجنرال المتدين سيكون زاهدًا، ولن يسعى إطلاقًا للقيام بانقلاب عسكري، ضد حكمه المدني.
تمامًا كما فعل الرئيس المعزول محمد مرسي، حين أحال في أغسطس (آب) 2012، «محمد حسين طنطاوي» وزير الدفاع، ورئيس أركان القوات المسلحة «سامي عنان»، للتقاعد؛ عندما استبدل بوزير الدفاع الفريق «عبد الفتاح السيسي».
كانت ثقة بوتو في زهد، وورع ضياء الحق، كبيرة للغاية؛ إذ ظهر ضياء دائمًا في هيئة الرجل الذي لا يعبأ بشيء أكثر من الصلاة، ولعبة الجولف، لذلك فقد تجاوز بوتو خمسة جنرالات، هم الأكبر من حيث الأقدمية والرتبة، ليعين ضياء الحق، الرجل الزاهد الطيب كما رآه.
وكانت «أيديولوجية» بوتو، اشتراكية ديمقراطية ذات صبغة إسلامية، كما تعرفها المصادر، وقد كان دارسًا للعلوم السياسية بالولايات المتحدة الأمريكية، والحقوق بالمملكة المتحدة، وقد تولى الحكم في باكستان؛ بعد أن فاز حزبه بأغلبية الأصوات في الانتخابات البرلمانية عام 1970.
وفي الأول من أبريل (نيسان) 1976، قام الجنرال الهادئ دائمًا، بانقلاب عسكري على الجنرال بوتو، وقد وعد ضياء الحق، حين قام بانقلابه، أن تقام انتخابات المجلس الوطني والإقليمي، في غضون 90 يومًا.
لكن لم يحدث هذا، وصار ضياء الحق رئيسًا لباكستان، في عام 1978، وقد أنشأ مجلس شورى، عين أعضائه بنفسه، وقام بإعدام «ذو الفقار على بوتو»، في الثالث من أبريل (نيسان)، عام 1979؛ بتهمة الابتعاد عن الممارسات الديمقراطية.
وخلال فترة حكمه، التي استمرت حتى عام 1988، عرف الجنرال بحنثه أكثر من مرة بوعده المتعلق بإقامة نظام ديمقراطي وانتخابات نيابية حرة في البلاد، وعرف عنه أيضًا توجهه الإسلامي الذي تبلور في سلسلة من القوانين القائمة على ما اعتبره «الشريعة الإسلامية»، وهي القوانين التي ينظر إليها العديد من المحللين، بأنها أسست لاضطهاد الأقليات الدينية، ومحاصرة حرية الاعتقاد فيما بعد.
«محمد ولد عبد العزيز».. الرجل الذي يعرف طريقه جيدًا
في عام 2003، حدثت محاولة للقيام بانقلاب عسكري ضد الرئيس الموريتاني «معاوية ولد الطايع»، من قبل صالح «ولد حنا»، لكن تصدى للمحاولة بنجاح وشجاعة، قائد حرس الرئيس معاوية ولد الطايع، و«هو محمد ولد عبد العزيز»، رئيس موريتانيا الحالي.
ظهر ولد عبد العزيز أمام رئيسه بمظهر القائد المخلص، قليل الحديث، وبات القائد «ولد عبد العزيز»، بعد هذه الحادثة، محل الثقة الأول للرئيس «ولد الطايع»، وقد قام الرئيس بترقيته لرتبة عقيد.
في عام 2005، شارك القائد المخلص، في انقلاب عسكري على قائده؛ إذ وعد الجيش الشعب الموريتاني أثناء هذا الانقلاب بإقامة نظام ديمقراطي، وإجراء انتخابات حرة ونزيهة.
وفي 19 أبريل (نيسان) من عام 2007، سلم الجيش، وهو القوة التي تمتلك كل موازين القوة في موريتانيا، السلطة للرئيس المنتخب ديمقراطيًا في مارس (آذار) من نفس العام، «سيدي ولد الشيخ عبد الله».
سيدي ولد الشيخ عبد الله، سليل لأسرة ذات مكانة دينية واجتماعية مرموقة في البلاد، وهو حاصل على دبلوم الدراسات المعمقة في الاقتصاد عام 1968، من مدينة «جرنوبل» بفرنسا، وحين تسلم ولد الشيخ السلطة، أصبح أول رئيس ـ لموريتانيا ـ لم يرتد البزة العسكرية قبل أن يصبح رئيسًا للبلاد، منذ عصر مؤسس الدولة «المختار ولد الداده»؛ فيما نظر إليه المحللون آنذاك، باعتباره بداية تجربة إفريقية ديمقراطية فريدة.
سيدي ولد الشيخ، دارس الاقتصاد، كان معروفَا بميوله الصوفية القوية، وبعد أسبوع واحد من تسلمه الحكم فاجأ الرئيس المنتخب جموع المصلين في مسجد بالعاصمة «نواكشوط»، وأدى فريضته الدينية معهم، بدون أي إجراءات أمنية، في مشهد لم تعتده موريتانيا من قبل.
كان القائد محمد ولد عبد العزيز ـ آنذاك ـ حريصًا للغاية على التقرب وتقوية علاقته مع الرئيس الجديد المنتخب للبلاد، وأظهر له نفسه بهيئة الرجل المتدين الزاهد المتصوف، الذي لا يريد سوى خير بلاده، ولا يسعى إلى أية سلطة.
وقد وثق سيدي ولد الشيخ عبد الله للغاية بالعقيد المخلص، وأعطاه هذه المرة رتبة جنرال، وهي أعلى رتبة في الجيش الموريتاني، كما عهد إليه بالملف الأمني ضد ما سماه بالإرهاب؛ ليقود حملة اعتقال السلفيين بموريتانيا عام 2008.
بعد عام من حكمه، شعر الرئيس المنتخب بثقل الدولة العميقة، وأن الجيش هو الذي يحكم في الواقع، وليس هو، كممثل للاختيار الشعبي الحر، وبالفعل بدأت العلاقة تتوتر بين الرئيس والجنرال محمد ولد عبد العزيز.
حاول الرئيس أن يقيل ولد عبد العزيز من قيادة الأركان الخاصة، في السادس من أغسطس (آب) 2008، وأن يحجم نفوذ المؤسسة العسكرية في السياسة، لكن في نفس اليوم استطاع الجنرال ولد عبد العزيز، أن يدبر انقلابًا ناجحًا ضد الرئيس الموريتاني، مع مجموعة من الضباط، الذي شكلوا هيئة أطلقوا عليها »المجلس الأعلى للدولة«، وقد تولى ولد عبد العزيز رئاستها.
وتم اعتقال سيدي ولد الشيخ، وفُرضت عليه الإقامة الجبرية، وبموجب اتفاق جرى بين الجنرال محمد ولد عبد العزيز، وبين قوى المعارضة، تحت رعاية من القوى الكبرى والشركات العابرة للجنسيات ذات المصالح الكبيرة بموريتانيا، أعلن الرئيس المعزول استقالته في 27 يوينو (حزيران) 2009.
حيث كانت تلك القوى والشركات، تريد تمرير الوضع الانقلابي الجديد، لكن على هيئة ديمقراطية.
وفي خطاب مؤثر له، أثناء إعلانه استقالته من منصبه، قال سيدي ولد الشيخ للشعب »إلى الذين حملتهم الظروف الاستثنائية، التي مر بها الوطن، على النيل مني شخصيًا أو من آخرين من حولي بسببي؛ فوجهوا إليّ، وإلى من معي، ومن حولي، سهام الاتهام، دون بينة ولا برهان، وبالغوا في تحميلنا أوزارًا نحن منها براء. إلى هؤلاء أتوجه فأقول: لا تثريب عليكم اليوم، يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين، وثقوا بأنني سأخرج كما دخلت، سليم القلب، لا أضمر حقدًا لأي موريتاني، وأتمنى للجميع كل الخير».
ومنذ تلك اللحظة، ظل سيدي ولد الشيخ متجنبًا للسياسة، حريصًا على أداء فرائض الصلاة بالمسجد القريب من بيته في قرية لمدن، حتى حظي باحترام وتقدير المصلين، وصار إمامًا للمسجد القاطن بجنوب نواكشوط.
في حين لم يزل، حتى يومنا هذا، الجنرال محمد ولد عبد العزيز هو رئيس موريتانيا؛ إذ تحاول الآن حكومته، بكل السبل أن تهيئ الطريق، لتعديل الدستور؛ بما يسمح للرئيس بالترشح لمدد رئاسية جديدة.